
فى عام 1982 قدم ثلاثة من كبار المبدعين فى تاريخ السينما المصرية، أول وأبلغ معالجة فنية واعية، لما آلت إليه أحوال المصريين بعد انتصار أكتوبر العظيم، وفى مسعى لتقديم إجابة عن تساؤل طالما أوجع قلوب المصريين: من الذى ضحى وحقق هذا النصر ومن المستفيد من نتائجه؟ وكيف تبخرت فى الهواء وعود سياسية ببناء مصر معقلا للحريات الديمقراطية، ووطنا للعدالة وتكافؤ الفرص والمساواة والرخاء الاقتصادى والتقدم الاجتماعى، فكان فيلم ” سواق الأتوبيس” للمخرج الساحر عاطف الطيب والسيناريست البديع ” بشير الديك ” والفنان الكبير “نور الشريف “.
كان نور الشريف هو حسن سواق أتوبيس النقل العام أثناء النهار وسائق التاكسى ليلا، حتى يتمكن من تلبية متطلبات الحياة. كان حسن صبيا حين تلونت حياة المصريين بالفجيعة بعد هزيمة يونيو 1967، وهتف مع جيله وأجيال تسبقه رفضا للقبول بها: حنحارب .. كل الناس حتحارب. وصار شابا مجندا فى صفوف الجيش لتحرير سيناء، ثم غدا المجند العائد من جبهات القتال مزهوا بالنصر، ومثقلا بمشاعر فقد شهداء زملاء وأصدقاء وجيران، سقطوا فى ساحات المعارك، دفاعا عن كرامة الوطن وحرية شعبه، وممتلئا بفيض من الأمانى وأحلام العيش المستور، الذى يحفظ للمواطن لقمة العيش الشريف وسبله الكريمة المنصفة .
لكن الواقع الذى واجهه خذله وأذله. فقد فوجئ هو وجيله، أنهم بعد أن شاركوا فى جلب النصر، صاروا من الضحايا والفقراء والمهمشين. أما من حصد ثمار النصر فهم مافيا الانفتاح الاقتصادى من السماسرة والتجار ومحتكرى الاستيراد والتصدير من طبقة المستثمرين الطفيليين الذين انتفضوا من جحورهم، لكى يستولوا على خيرات مصر وأهلها، منذئذ وحتى الآن .
وجاء مشهد النهاية للفيلم وحسن يقفز من الأتوبيس، ويعدو بسرعة جنونية لمطاردة أحد هؤلاء اللصوص فيمسك به ويوسعه ضربا، وينهال عليه بسيل من الشتائم، صائحا بصوت مرتفع يشبه استغائة: يا ولاد الكلب. وكأنه يقول إن حال مصر المايل لن ينعدل، إلا بتعقب هؤلاء اللصوص ومحاربتهم.
تذكرت أحداث الفيلم وحارس العقار فى العمارة التى أقطنها، يجأر لى بالشكوى من أن سعر ساندوتش الفول صار بخمسة عشر جنيها. تذكرته، والمواطنون يستوقفون نائب التجمع الشجاع “عاطف مغاورى ” فى الطرق العامة والشوارع والحارات لكى يقدموا له الشكر ويدعو له أطيب الدعوات، بعد أن صار بطلا شعبيا لمجرد دفاعه فى ساحتى البرلمان والإعلام ببسالة وخبرة قانونية واضحة عن سكان الإيجار القديم .
تذكرت الفيلم بعد ذيوع أنباء عن حادث مؤلم فى حى شبرا قتل فيه ابن مستأجر، ابن المالك لمطالبته له عقب صدور القانون، بمغادرة المسكن فى التو واللحظة. فضلا عن الحرب الأهلية بالأسلحة البيضاء والنارية بين سكان وملاك فى حى كرداسة، للأسباب نفسها .
أما ما فطر قلبى حقا فهو رسالة الفنانة الموهوبة وخبيرة التدريب المنهجى للأداء التمثيلى المهنى “معتزة صلاح عبد الصبور” وهى واحدة من ملايين المتضررين من صدور قانون الإيجار القديم. ولمن لا يعرف، فإن معتزة هى ابنة لاثنين من المثقفين هما الشاعر صلاح عبد الصبور والإعلامية الكبيرة سميحة غالب، وهو الشاعر العربى الوحيد الذى وصفته موسوعة أكسفورد للألفية، بأنه بين مائة شاعر أثروا البشرية منذ بداية تاريخها المكتوب. وبعد رحيلهما تتولى معتزة رعاية أختها الصغرى مى المودعة منذ سنوات للعلاج فى أحد المسشفيات .
وفى رسالتها المبللة بالدموع، تقول معتزة بعد أن أخبرها مالك العقار أنه سيسترد الشقة التى تقطنها، مع أنه سوف يستردها حتما بعد موتى كما تستدرك وهى تقول :
أنا معنديش ثقة غير فى ربنا سبحانه وتعالى. وعندى مليون يقين أن ربنا هيعدل الميزان، حتى لو مليون محكمة وقاضى فى الأرض قالوا على قانون باطل أنه عادل ..يلا اطردوا المستأجرين .. فقد اتفصل لكم قانون لمرمطة الناس. ده بيقولك أدينى أهه مكنتك إنك تذل الساكن سبع سنين، بزيادة ايجار ستكون مجحفة لكثيرين. وزيادة فى إذلاله تطرده بعد مرورها ، وانا فى ضهرك .. كل ده بالرغم من أن المستأجر زود الإيجار عشرات المرات فوق الايجار الأساسى، وبالرغم من أن العقود تنص صراحة على الحق فى امتداد العقد، وعلى الرغم أن الجنيه فى الستينات كان يسوى أكثر من الجنيه الذهب، ومن الايجار اللى كان أبويا بيدفع مرتبه كاملا لتسديده، دفعنا ثمن الشقة عشرات المرات .
هى لحظة مهينة للمجتمع المصرى ككل تقول معتزة، اللى بترسخ أن المادة هى القيمة الوحيدة فى الحياة. فموت الناس كمدا واطردهم وأفقرهم، ودوس على الأخلاق وشرف التعاقد القانونى، إذا ما وقف حائلا بينك وبين جنى المال. والتعديلات الأخيرة على قانون الإيجارات القديمة، هى البداية، اللى حتجيب عاليها واطيها .
أما الفيلسوف الهندى بيدبا فيقول للمك:إن علمت أن فى بعض وزرائك استبدادا فى الرأى واستكبارا على الإشارة، وإزورارا عن نصح الناصحين، فأعلم أنه جدير ألا يصدقك الرأى ، ولا يخلص لك فى النصح . فليس بناصح لك من لا ينتصح ، وليس بمخلص لك من يشك فى اخلاص الناس له، ولا ينبغى أن تأمن من لا يأتمن الناس، ولا تطمئن لمن لا يطمئنوا إليه .
فلا تعرضوا عن سماع استغاثة حسن، ولا تستهينوا بغضب معتزة، ولاتتجاهلوا حكمة بيدبا الفيلسوف، لكى يستقيم الحال المايل .