
شكّل الحوار منذ بدء الخليقة قيمة إنسانية رفيعة، فمنذ أن تفتّح وعي إنسانها الأول أدرك أهمية هذه القيمة، وكذا سارعت الشعوب إلى اتخاذ الحوار جسراً لتواصلها مع بعضها البعض، وقد أتاح لها أن تَعبُرَ من صحراء العزلة إلى رحابة التفاهم، ومن هنا نجح الحوار والتسامح وتقبّل الآخر في أن تسود لغة التفاهم؛ فكانت كفيلة بأن تطفئ نيران التشاحن والاقتتال تحت أي ذرائع، وأخذَتْ الشعوب والقبائل -برغم اختلافها وتباين أفكارها ومعتقداتها- تحاول جاهدةً أن تُغلِّب الوعي والإنصات للآخر المختلف مدركة بأن الحوار أمضى وأبلغ من آلاف الأسلحة.
وليس يخفى على أي متابع وقارئ للتاريخ أن البشرية قد شَهِدَتْ حروباً وخصومات، ولم يطفئها سوى الحوار ولغة التسامح التي انتصرَتْ على ضجيج القوة، ولعل من المهم التأكيد بأن التسامح والحوار قيم متجذرة في ديننا الحنيف الذي انبثق من قلب أرضنا المقدسة؛ مكة المكرمة لينتشر إشعاعه في كل أنحاء العالم.
ومن هنا فلا غرابة أن تكون بلادنا الفتية؛ بتاريخها الإنساني والروحي العظيم هي مصدر الإشعاع، ونبْع التسامح، والتعارف الذي نَدَبَ إليه المولى عز وجل كل شعوب العالم.
بالأمس؛ استعرض معرض التواصل «مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري في الرياض»، من خلال «معرض التواصل التفاعلي»، مجموعة من التجارب، والأنشطة التي تعزز قيم التفاهم، والتعايش الإنساني بين الثقافات، والشعوب.
وقد أشارت الأخبار أن المعرض -امتداداً لدوره التاريخي والحضاري الرصين- يقدّم أركانًا تفاعليةً بُنيت بأحدث التقنيات الرقمية الحديثة، التي تسهم في رفع وعي الزوار بأهمية الحوار، وتبادل الخبرات والمعارف، وتتيح المشاركة المباشرة في أنشطة عملية، تجسد مبادئ التواصل الحضاري، إلى جانب عروض مرئية وتثقيفية موجهة لمختلف الفئات العمرية.
ولتعزيز التجربة وتكريس تلك القيم العظيمة؛ فإن المعرض تضمّن عدة أركان مميزة، منها ركن يستعرض نماذج من الأزمات السياسية التي تم حلها عبر الحوار، وكذلك الركن «الصامت» الذي يضم مقالات وعبارات، لملوك، وكتّاب عالميين تبرز أهمية الحوار والتسامح، إضافة إلى ركن التسجيل الآلي الذي يتيح ربط «سوار يد» للزائر عند دخوله للتفاعل مع بقية الأركان، كما خُصص ركن «ابن قضيتك» الذي يتيح للزوار طرح قضاياهم وأفكارهم وتعرض على الشاشة، فضلًا عن ركن لتوثيق الزيارة من خلال التقاط صورة تذكارية للضيف تُربط بعبارة «تسامح» يختارها لتوضع بجانبه.
كل هذا يأتي مترجماً وعاكساً لتقدير وإعلاء قيمة الحوار والتسامح الذي يرسّخ جهود مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري، لنشر ثقافة الحوار، والتأكيد لمكانة المملكة في تعزيز التواصل بين الحضارات، ودعم مبادئ التفاهم، والتقارب الإنساني على المستويين المحلي والعالمي.
نخلص من هذا إلى حقيقة مهمة؛ وهي أن الحوار لم يَعُدْ ترفًا أخلاقيًا، وكذلك التسامح ليس زينةً أو حليةً تُضاف إلى الأخلاق، بل هما معاً ضرورة إنسانية تحفظ التوازن، وتؤكد أن ما يجمع البشر أكبر مما يفرقهم. ولعل أعظم ما تحتاجه الإنسانية اليوم، وهي تعبر منعطفات معقدة من الصراعات والهويات المتنازعة، هو أن تعود إلى هذه القيم الأصيلة التي تُعيد للإنسان مكانته، وللأوطان أمنها، وللعالم سكينته.