
قبل حوالي 25 عاماً، اشتعلت “حرب المتصفحات” الأولى عندما حاولت مايكروسوفت فرض هيمنة متصفحها على العالم، وانتهى الأمر بخسارة مدوية في ساحات القضاء. اليوم، يعود المشهد من جديد لكن بملامح أكثر خطورة، فالمعركة لم تعد حول التصفح فقط، بل حول من يملك بوابة المستقبل في عصر الذكاء الاصطناعي. غوغل ومايكروسوفت، ومعهما تحالف من اللاعبين القدامى والجدد، يستعدون لحرب ثانية قد تعيد رسم خريطة الإنترنت كما نعرفها.
قبل ربع قرن، دخلت مايكروسوفت في مواجهة قضائية كبرى بعدما اتُّهمت باستغلال هيمنة نظام “ويندوز” لفرض متصفح “إنترنت إكسبلورر” على المستخدمين، ما كبّدها خسائر قانونية ضخمة وأضعفها لسنوات. واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه.
وحول هذا يشير الدكتور محمد الكيالي، رئيس الاتحاد الدولي للتكنولوجيا والاتصالات IFGICT، في حديث لـ”النهار”، إلى أنه “في التسعينيات، كانت المعركة الرئيسية بين شركتي مايكروسوفت ونتسكيب. كانت نتسكيب، بمتصفحها Navigator، هي المسيطر الأوحد على سوق المتصفحات. كان المتصفح هو الواجهة التي يرى من خلالها المستخدمون شبكة الإنترنت الوليدة. رأت مايكروسوفت في ذلك تهديداً لسلطتها في مجال أنظمة التشغيل، فقامت بخطوة جريئة وحاسمة: دمج متصفحها الجديد إنترنت إكسبلورر مباشرة في نظام التشغيل ويندوز 95. هذه الخطوة، التي أثارت جدلاً واسعاً، كانت بمثابة ضربة قاضية لنتسكيب”.
أما اليوم، فعملاق البحث غوغل، التي ترى أن مكانتها في البحث مهدَّدة بتقدّم مايكروسوفت وتحالفها مع “أوبن أي آي”، تقود جبهة جديدة تُعرف بـ”تحالف حرية اختيار المتصفح” ” Browser Choice Alliance”. يضم هذا التحالف شركات مثل “أوبرا” و”فيفالدي” وغيرهما، ويهدف للضغط على مايكروسوفت التي يُتهم نظام “ويندوز” لديها مجدداً بترجيح كفة متصفحها “إيدج” عبر ممارسات ملتوية مثل إعادة فرضه كخيار افتراضي أو إطلاق تحذيرات مثيرة للقلق عند تحميل بدائل أخرى.
تصميم الذكاء الاصطناعي.
بوابة الدخول الأساسية
المعركة ليست شكلية، فالمتصفح أصبح نقطة الدخول الأساسية لعالم الذكاء الاصطناعي. من خلاله تتشكل عادات الاستخدام الجديدة، ومن يكسب هذه الجولة قد يفرض هيمنته على سوق الذكاء الاصطناعي نفسه. لذلك، نرى سباقاً محموماً بين متصفحات تقليدية وأخرى ناشئة مثل “كومت” من “بيربلكسيتي” أو “ديا” من “براوزر كومباني”، وكلها تراهن على تجربة جديدة تجعل المستخدم أكثر اعتماداً على أدوات الذكاء الاصطناعي.
ويري الدكتور كيالي أنه “إذا كانت معركة التسعينيات تدور حول التحكم في البوابة إلى الإنترنت، فإن معركة اليوم تدور حول التحكم في البوابة إلى الذكاء الاصطناعي”.
ويضيف “ما يجعل هذه المعركة أكثر خطورة هو أن السيطرة على هذه البوابة لا تعني فقط السيطرة على كيفية تصفحنا للمواقع، بل تعني السيطرة على كيفية وصولنا إلى المعلومات، وتوليد المحتوى، وحتى اتخاذ القرارات. إذا تمكن متصفح واحد من أن يصبح البوابة الافتراضية للذكاء الاصطناعي، فإن ذلك قد يؤدي إلى احتكار طويل الأمد، حيث يصبح هذا المتصفح هو المصدر الأساسي لكل التفاعلات الرقمية”.
وما يزيد من سخونة المشهد أنّ الحكومات والجهات التنظيمية تتابع هذه التطورات عن قرب. ففي أوروبا مثلاً، يواجه “ويندوز” انتقادات لعدم التزامه الكامل بقوانين المنافسة الرقمية الجديدة، بينما تحاول شركات مثل “أوبرا” نقل المعركة إلى هيئات المنافسة في أميركا اللاتينية. هذا البُعد التنظيمي قد يحوّل “حرب المتصفحات” من صراع تقني–تجاري إلى قضية سياسية واقتصادية كبرى، شبيهة بما حدث في التسعينيات.
في المقابل، ترد مايكروسوفت بأن الانتقادات مبالغ فيها، مشيرة إلى أن غوغل نفسها تسيطر على نحو 68% من سوق المتصفحات، بينما لا يتجاوز نصيب “إيدج” 5% فقط، وأن الشركة صاحبة “كروم” ليست في موقع يؤهلها لتقديم دروس في المنافسة.
سيناريوهان في الأفق
مع ذلك، تبقى خشية المنافسين واقعية: لأن السيطرة على العادات الرقمية في هذه اللحظة المفصلية قد تحدد من سيكون عملاق الذكاء الاصطناعي المقبل. وإذا لم تُضبط ممارسات مايكروسوفت، قد نجد أنفسنا أمام نسخة مكررة من “حرب المتصفحات” في التسعينيات، لكن برهانات أكبر بكثير هذه المرة.
المستقبل إذن يبدو مفتوحاً على سيناريوهين: إما أن يفرض أحد العملاقين هيمنته على تجربة التصفح بالذكاء الاصطناعي ويمهد لبناء احتكار جديد قد يستمر لعقد قادم، أو أن تتمكن المتصفحات الناشئة والتحالفات التنظيمية من كسر الحلقة وخلق سوق أكثر تنوعاً. وفي الحالتين، النتيجة ستحدد شكل العلاقة بين المستخدمين والتقنية لعقود مقبلة.