
هذه السنة ونحن نحتفل بعيد الشباب، لا نحتفي فقط بذكرى ميلاد الملك محمد السادس، بل نستحضر ربع قرن من التحولات العميقة التي قادها بهدوء، أحيانًا بصمت، وأحيانًا بقرارات جريئة غيرت وجه المغرب. شخصيًا، حين أتأمل مساره منذ 1999، أجد أن أكبر إنجازاته لم تكن في البهرجة ولا في الخطابات الطويلة كما يفعل بعض القادة العرب ومن بينهم الجارة الشرقية، بل في قدرته على إدارة ملفات شائكة بصبر استراتيجي، وبطريقة جعلت المغرب ينتقل من “بلد يراقب” إلى “بلد يُراقَب ويُقتدى به” في محيطه الإقليمي.
ويمكن القول أنّ أول ما يلفت الانتباه أن الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش، اختار أن يفتح الجروح قبل أن تلتئم. والدليل أنّ هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004 لم تكن مجرد آلية تعويض مادي للمعتقلين السياسيين وضحايا سنوات الرصاص، بل كانت لحظة رمزية عميقة:
ملك جديد يعلن أن صفحة الماضي تُقرأ بعينين مفتوحتين لا بعين واحدة. هذا الاعتراف الرسمي، غير المسبوق في العالم العربي، منح للمغرب صورة بلد يتصالح مع تاريخه بدل أن يدفنه في النسيان.
الإصلاح السياسي والدستوري: هدوء في زمن العواصف
وكلنا نتذكر في 2011، حين اهتزت المنطقة برياح “الربيع العربي”، كان رد الملك مختلفًا عن قادة آخرين. لم يختر لغة الحديد والنار، بل قدّم دستورًا جديدًا عزز من صلاحيات الحكومة والبرلمان، ورسّخ حقوق الإنسان، وفتح الباب أمام مشاركة أوسع للمعارضة السياسية. قد يُقال إن الإصلاح لم يبلغ الكمال، لكن المؤكد أن المغرب نجا من سيناريوهات كارثية عاشتها دول مجاورة، ومازالت آثارها ونيرانها مشتعلة لحدود اليوم في بعضها. عكس الحكامة والحكمة اللتين تحلى بهما الملك محمد السادس، حيت بقي النموذج المغربي محافظًا على الاستقرار مع جرعة إصلاحات متدرجة.
ملف الصحراء: دبلوماسية النفس الطويل
لا يمكن الحديث عن مسار الملك دون الوقوف عند قضية الصحراء. فمحمد السادس لم يكتف بالدفاع عن الموقف المغربي التقليدي، بل أبدع مقترح الحكم الذاتي سنة 2007، باعتباره حلًا واقعيًا وذي مصداقية، وهو ما جعل مواقف عدد من القوى الكبرى تميل لصالح المغرب، من الولايات المتحدة إلى إسبانيا وألمانيا. الدبلوماسية الملكية هنا اعتمدت “النفس الطويل”: حضور دائم في الاتحاد الإفريقي، عودة قوية إلى عمق القارة، توقيع اتفاقيات مع دول كبرى، وجعل من التنمية في الأقاليم الجنوبية (مشاريع البنية التحتية، ميناء الداخلة الأطلسي، الطاقات المتجددة) حجة عملية على جدية المغرب في جعل الصحراء فضاءً للنمو لا ساحة نزاع.
وعلى الصعيد التنموي، يُحسب للملك أنه جمع بين المشاريع الرمزية الكبرى والمشاريع الاجتماعية القاعدية. فإطلاق القطار الفائق السرعة “البراق”، وميناء طنجة المتوسط الذي صار من بين أكبر الموانئ المتوسطية، ومشاريع الطاقات النظيفة، أعطت صورة عن بلد يتجه إلى المستقبل. وفي المقابل، كانت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 رهانًا على الفئات الهشة، محاولةً لتصحيح اختلالات اجتماعية تراكمت لعقود. هذه المزاوجة بين “البنية التحتية العملاقة” و”العدالة الاجتماعية” هي ما ميّزَ التجربة المغربية في العقدين الأخيرين.
العلاقات الدولية: المغرب من الهامش إلى المركز
خلال ربع قرن، انتقل المغرب من بلد ينظر أساسًا إلى أوروبا وفرنسا إلى فاعل إقليمي متعدد الاتجاهات: شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا، عودة قوية إلى إفريقيا، تعاون عسكري وأمني متقدم مع الولايات المتحدة، وحضور فاعل في ملفات كبرى مثل الهجرة ومكافحة الإرهاب. وقد كانت الدبلوماسية الملكية هنا ذكية: لا صدام مباشر مع القوى الكبرى، ولا تبعية مطلقة لأي طرف، بل سياسة تنويع الشركاء وربط الاقتصاد المغربي بسلاسل القيمة العالمية، وهو ما جعل المغرب يتموضع في قاطرة الدول الإفريقية والعربية، فصارت كل الدول تسعى للاقتداء به، وبناء علاقات أكثر قربا مع المغرب الجديد.
ورغم هذه المنجزات، يظل السؤال معلقًا: ماذا عن الشباب؟ البطالة ما زالت تؤرقهم، والتعليم لم يبلغ بعد مستوى الطموحات، والهوة بين النخب السياسية والجيل الجديد ما زالت قائمة. لكن من يتابع خطابات الملك في السنوات الأخيرة يلمس إصرارًا على جعل الشباب قلب المشروع التنموي، من خلال برامج مثل “انطلاقة” لدعم المقاولات الناشئة، وتوسيع التغطية الاجتماعية لتشمل ملايين المغاربة.
في عيد الشباب هذا، أنا شخصيا لا أرى في محمد السادس فقط ملكًا يحتفل بعيد ميلاده، بل رجل دولة قاد مسارًا معقدًا: صالح الجراح القديمة، ثبّت الاستقرار حين تهاوت أنظمة، أعاد ملف الصحراء إلى السكة الدبلوماسية الصحيحة، وأطلق مشاريع جعلت المغرب حديثًا في الصحافة العالمية. نعم، التحديات ما زالت كثيرة، لكن يمكن القول إن ربع قرن من حكمه منح للمغرب موقعًا لا يُستهان به في الخريطة الإقليمية والدولية.
عيد الشباب، إذن، ليس مجرد تاريخ في الرزنامة، بل هو موعد سنوي لنقرأ مسار ملك اختار أن يقود الإصلاح بصبر استراتيجي، وأن يمنح للشباب فرصة أن يكونوا ورثة مشروع لا يزال في طور البناء.