محقٌ “حزب الله” عندما يتوجّس من النظام الجديد في سوريا الأقرب إلى الإسلامية السُنّية المتشدِّدة منه إلى الديموقراطية التي لم تعرفها سوريا في عهدي حافظ وبشار الأسد. ومحقٌ عندما يُحذِّر دولة لبنان حكومةً ورئيساً جديدين من انعكاسات سياسته السلبية على لبنان. لكنه غير محق في تجاهله مسؤوليته المباشرة عن الخطر الذي يخافه اليوم. فهو دفعه بمقاتليه إلى سوريا بشار الأسد لمساعدته في مواجهة الثورة الديموقراطية عليه التي حوّلها هو إسلامية متشدِّدة من أجل أن يحصل على تعاطف محيطه العربي والعالم. وشارك في استهداف هؤلاء المشرّدين وكذلك السوريين الديموقراطيين الذين دفعهم الأسد الابن إلى التحرك مصدّقين وعوده بإحداث تغيير إيجابي في سوريا. لم يكن أمامه إلّا الاستعانة بجيش “حزب الله” والخبراء العسكريين للجمهورية الإسلامية الإيرانية ولاحقاً بروسيا. وتحوّل القتال حرباً بين الشيعة والعلويين والسُنّة السوريين. وفيها نجح جنود “حزب الله” والتنظيمات العسكرية الشيعية العراقية وغيرها في حماية النظام ودحر الثوار الديموقراطيين والإسلاميين الذين لم يجدون مأوى سوى أوروبا، في حين استقبلت تركيا الإسلاميين وزوّدتهم بكل ما يحتاجون إليه من أسلحة وتدريب وربما خبراء، فاحتفظوا بقسم من سوريا الشمالية وصارت “عاصمتها” إدلب مقراً لسلطتهم. لمَ هذا الكلام؟ أولاً للقول إن النظام السوري السابق الذي صنّفته الولايات المتحدة منذ سنوات كثيرة علمانياً (SECULAR) لم يكن جوهره كذلك ولا ممارساته. بل كان نظاماً اتخذ من حزب البعث العربي الاشتراكي شعاراً له، ومارس في الداخل سياسة فئوية غلّب فيها مصالح الطائفة العلوية التي ينتمي إليها آل الأسد. والحال أن المنتمين إليها يشكّلون أقلية عدديّة في الدولة. وهو ثانياً للقول إن إشتراك “حزب الله” في حرب سوريا اعتبره “سنّيوها” استهدافاً لهم وحماية للنظام الذي حاربهم بقسوة منذ سنوات طويلة. علماً أن ذلك لا يعني أن “الإخوان” المسلمين السُنّة لم يخطئوا عندما قتلوا في الثمانينيات من القرن الماضي نحو مئة ضابط علوي متخرِّج في حماة بعد فصلهم عن زملائهم السُنّة. لكن الردّ على هذا العمل البشع لا يكون بارتكاب أعمال كثيرة مثله، سواء قبل الثورة على الأسد أو بعدها. وهو ثالثاً للإشارة إلى أن مؤسس “حزب الله”، أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيعية، حوّله جيشاً محترفاً لمحاربة معارضي الحكم الأقلوي في سوريا ولدعم أي محاولة تغييرية في دول تعتبرها إيران شيعية ومؤيدة لها. ورابعاً، للقول إن “حزب الله” تجاوز لبنانيّته يوم حارب في سوريا، ويوم درّب في العراق واليمن، ويوم كرّس سيطرته وطائفته الشيعية على لبنان. ولم يستشر في ذلك الطوائف الأخرى في البلاد. وللقول أيضاً إنه خالف مقولة الجيش والشعب والمقاومة التي رفعها تبريراً لمحاربته إسرائيل ولمحاربتها على نحو غير مباشر في سوريا ولبنان وغيرهما. هذه المقولة لم ترد في اتفاق الطائف، ولم ترد مباشرة ومداورة في بيانات وزارية لأكثر من حكومة لبنانية بعد الحرب، إلا لأن سوريا كانت حاكمة لبنان، وكان لها فيه ممثل عسكري،ولا سيما بعد انسحاب جيشها من أراضيه مضطراً، ودولة لبنان وحكوماتها ورؤساء الجمهورية فيها اختارهم سوريا ولاحقاً “الحزب” ومعه مؤسسته إيران. لذلك كله لا يستطيع “حزب الله” اليوم رفع شعار أنه يحارب إسرائيل وتدفيع لبنان الثمن الكبير لذلك، والطلب من الطوائف والمذاهب الأخرى مساعدته. فهو الذي شنّ الحرب عليها مرتين. الأولى كانت عملية عسكرية صغيرة نفّذها داخل حدود إسرائيل قتل خلالها عددا من جنودها لاحقاً. وكان ذلك عام 2006. ردّت عليها إسرائيل بحرب فاشلة استمرت شهراً ونيّفا، أوقفها مجلس الأمن ودوله الكبرى بالقرار 1701. ضاعف ذلك مرّات عدة ثقة “الحزب” بنفسه وثقة إيران به. فإعلان “حرب إسناد” لغزّة على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 استمر طويلاً، وظنّ أن إسرائيل “الأوهن من بيت العنكبوت” دخلت مرحلة الانحطاط والضعف. ولم يعرف أنها كانت تعدّ العدّة لتوجيه ضربة قاصمة له، وفعلت ذلك. طبعاً ليس هذا الكلام إعلان ابتهاج بفشله العسكري الأخير. فهو تمّ على يد إسرائيل العدوّة للبنان. بل للفت “حزب الله” إلى أنه لم يكن يدافع عن الأقليات اللبنانية المذهبية والطائفية، وهو منها. بل كان يرسّخ وينشر في لبنان وسوريا وغيرهما نفوذاً “إمبراطورياً” إيرانياً شيعياً. وهذا أمر لا يناسب سُنّة لبنان ولا مسيحييه الذين “لا يكفي إعطاؤهم الأمان” لكسبهم وإغراءات أخرى في مواقع مهمّة في الدولة، لكنها تحت سيطرته. كما لا يناسب دروزه. طبعاً ليس كاتب “الموقف هذا النهار” مسروراً بانتصار اسرائيل على “حزب الله”. لكنه لن يكون مسروراً إذا استمرّ في تشدّده، وإذا أعادت إسرائيل الكرّة حربياً. فبذلك يخسر الشيعة وتخسر الشعوب اللبنانية الأخرى وفي مقدمها السُنّة. لذا فهو يتمنّى تعقلاً شيعياً وتعقلاً سنّياً وتعقلاً مسيحياً. المنطقة تسير نحو نظام جديد يجب أن يكون لبنان جزءاً منه ولا يكون هذا النظام على حسابه.