تأثير الانقسامات الداخلية على الوضع في تركيا

تأثير الانقسامات الداخلية على الوضع في تركيا

أثارت التطورات الأخيرة داخل “حزب العدالة والتنمية” جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية التركية، بعد اعتقال المحامي البارز رزان إبوزديمير، بالتزامن مع استهداف مباشر لوزير الخارجية هاكان فيدان، في إطار صراع أعمق على النفوذ والولاء داخل المؤسسة الحزبية والمحيط الرئاسي.

 

إعادة تشكيل شبكات النفوذ
لا يمكن النظر إلى فيدان على أنه مجرد مدير سابق لجهاز الاستخبارات الوطني قبل انتقاله إلى السلك الديبلوماسي، بل كشخصية مركزية في استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي لتركيا، ومقربة من الرئيس رجب طيب أردوغان.
لعب فيدان دوراً محورياً في الملفات الداخلية والخارجية وتنفيذ سياسات الحكومة في قضايا الأمن القومي، بما في ذلك العمليات ضد منظمة فتح الله غولن، ومراقبة المعارضة السياسية، وتنفيذ أجندة أنقرة في سوريا، ما يعزز الاعتقاد أن استهدافه محاولة لإعادة تشكيل شبكة النفوذ داخل “العدالة والتنمية” والدولة التركية.
تزامن اعتقال إبوزديمير مع تلميحات في وسائل إعلام موالية للمعارضة بوجود “تورط” لشخصيات مقربة من فيدان في أعمال غير قانونية، وهو ما يُنظر إليه كمسعى لتقويض صورته كرجل مخابرات وديبلوماسي ناجح.
كذلك، لم يُخفِ بعض نواب “العدالة والتنمية” استياءهم من نفوذ فيدان المتزايد، وبدأوا بالتعبير عن انتقادات ضمنية ومباشرة، معتبرين أن وزارة الخارجية في عهده أصبحت مركزاً للقرارات فوق الحزبية وتشكل تهديداً لتوازن القوة داخل الحزب.
وكان لافتاً تركيز وسائل إعلام محلية، بعضها مملوك لشخصيات محسوبة على الرئيس التركي، مثل صحيفة “صباح” المملوكة من صهره، على تسليط الضوء على أدوار فيدان في قضايا خارجية حساسة، مثل الملفات السورية والشرق أوسطية، مع تلميحات إلى “تجاوزات” قد تضر بمكانة تركيا الإقليمية.

 

صراع النفوذ داخل “العدالة والتنمية”
استهداف فيدان يعكس صراعاً على النفوذ داخل الحزب الحاكم بين ثلاثة مستويات:
القصر الرئاسي، الذي يسعى إلى تعزيز سيطرة أردوغان عبر دعم مواليه من خلال أجهزة الأمن والاستخبارات.
والكتلة البرلمانية التقليدية لـ”العدالة والتنمية”، التي تحاول حماية مصالحها الانتخابية والمناطقية، وتخشى من أن هيمنة فيدان قد تهدد مواقعها الداخلية.
والكوادر الشبابية والإدارية، التي ترى في تركيز السلطة بيد شخصيات مركزية خطراً على الشفافية والمسار الحزبي المؤسساتي، ما يخلق انقسامات جديدة.
النتيجة الأبرز تبقى تآكل وحدة الحزب الحاكم، بخاصة في ظل نقاشات التعديلات الدستورية والانتخابات المبكرة والبحث في الأسماء القادرة على خلافة أردوغان في السلطة، مع الإبقاء على آلية الحكم وطبقة النافذين الحاليين.
إن التركيز على استهداف فيدان يعيد إلى الواجهة الصراع بين الولاء الشخصي للقصر والحاجة إلى استقرار مؤسسي داخل الحزب. وبينما يظل أردوغان اللاعب المركزي، فإن صعود قوى معارضة داخل “العدالة والتنمية” يشير إلى احتمال انكسار سيطرة القيادة على كامل أجهزتها الحزبية والإدارية، ما قد يغيّر قواعد اللعبة السياسية في تركيا خلال السنوات المقبلة.

 

تحديات “تحالف الشعب”
تأتي ملفات السياسات الداخلية والقضائية والاقتصادية في مقدم عوامل التصدعات الداخلية في جسم “العدالة والتنمية”، أو داخل صفوف “تحالف الشعب” الذي يضم “حزب الحركة القومية” وأحزاباً يمينية أخرى.
تمثل عملية نزع سلاح “حزب العمال الكردستاني” (PKK) اختباراً استراتيجياً لتركيا داخلياً وإقليمياً، إذ تتقاطع المصالح الانتخابية والانقسامات الداخلية والتوازنات السياسية مع خطط الدولة للسلام. العملية تأتي في ظل تحولات سياسية مهمة، أبرزها الانضباط النسبي لـ”حزب الحركة القومية” في مقابل التناقضات الداخلية في “العدالة والتنمية”.
تظهر التحديات الرئيسية في قدرة “العدالة والتنمية” على توحيد خطاب السياسة الداخلية حيال القضية الكردية، فبينما يسعى الحزب إلى تصوير نزع السلاح مبادرة سلام، تتصاعد أصوات داخلية تصفه بـ”الهزيمة العسكرية”، ما يخلق تناقضاً في الرسائل الموجهة للجمهور والناخبين القوميين.
من جهته، يعتمد “حزب الحركة القومية” بقيادة دولت بهجلي خطاباً متماسكاً، مصوراً العملية كـ”انتصار استراتيجي للدولة” مع الحفاظ على الهوية القومية التقليدية. هذا الانضباط يمنح الحزب قدرة على استغلال التردد داخل “العدالة والتنمية” لتعزيز صورته كحامٍ للهوية القومية، ما يضع تحالف الشعب أمام تحدي الحفاظ على قاعدة ناخبية موحدة، وسط مخاوف لدى “العدالة والتنمية” من انزياح الناخبين القوميين نحو “الحركة القومية” أو “حزب الجيد”.
أما إقليمياً، فقد يضعف الموقف التركي في المفاوضات مع العراق، وبشكل أكبر في الملف السوري، إذ تظل مسألة اللامركزية في شمال شرق سوريا محور جدل كبير.
هذه المخاوف دفعت القصر الرئاسي التركي إلى تعميم أوامر بتوحيد الرسائل الإعلامية لتجنب تفاقم الانقسامات، وفقاً لمعلومات حصلت عليها “النهار” من مصدرين إعلاميين تركيين.
وأظهر أحدث استطلاع للرأي أجراه “حزب العدالة والتنمية” توقعات المواطنين الأتراك بشأن الاقتصاد لعام 2026، وكشف عن فجوة واضحة بين المتفائلين الذين بلغت نسبتهم 26.8%، في مقابل 51.4% ممن يتوقعون تدهور الاقتصاد، استناداً إلى معطيات أهمها استمرار التضخم، الذي بلغ 38% في الربع الثاني من 2025 حسب الأرقام الرسمية، في مقابل 55% حسب الأرقام الأكاديمية المستقلة، ما أدى إلى تقويض القوة الشرائية للمواطنين الأتراك، إلى جانب البطالة بين الشباب التي تجاوزت عتبة 22%، وهو ما يفاقم الاستياء الاجتماعي.
وتوضح التطورات الأخيرة أن “العدالة والتنمية” يواجه مرحلة حساسة من الانقسامات الداخلية، إذ تتشابك المصالح الشخصية مع التوازنات المؤسسية و”السياساتية”. صراع النفوذ حول شخصيات محورية مثل فيدان يعكس التوتر بين الولاء الشخصي للقصر الرئاسي والحاجة إلى استقرار مؤسسي داخل الحزب، بينما تحاول الكتلة البرلمانية التقليدية والكوادر الشابة ضبط التوازن بين المصالح الانتخابية والهيكل الحزبي.
في الوقت نفسه، يبرز تحالف الشعب بتحدياته الخاصة، إذ يمنح الانضباط النسبي لـ”حزب الحركة القومية” صورة قوة متماسكة، في مقابل التناقضات الداخلية داخل “العدالة والتنمية”. هذه الديناميكيات تهدد وحدة الخطاب السياسي وتعرّض الحزب الحاكم لضغوط متزايدة في الملفات الداخلية والقضائية والاقتصادية، كما قد تؤثر على قدرة التحالف على الحفاظ على قاعدة ناخبية موحدة في مواجهة الانتخابات المقبلة.
في النهاية، يبدو أن مستقبل “العدالة والتنمية” و”تحالف الشعب” مرتبط بمدى نجاح القيادة في إدارة الانقسامات الداخلية وضمان التوازن بين الولاءات الشخصية والاستقرار المؤسساتي، في وقت تتنامى التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي قد تعيد رسم المشهد السياسي التركي خلال السنوات المقبلة.

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *