مصدرنا الإخبارى - صدر حديثًا عن دار أتون للدراسات بالقاهرة كتاب بعنوان "مئوية الشيخ سعيد بيران (1925- 2025)" للدكتور محمد رفعت الإمام، الأكاديمي المصري المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر والعلاقات الدولية، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية واتحاد المؤرخين العرب والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وعميد كلية الآداب بجامعة دمنهور السابق.

الكتاب يُعد أول وثيقة تكشف مخططات تركيا لنفي الكرد وصهرهم وإبادتهم ماديًا ومعنويًا، كما يرصد محطات فارقة في مسار النضال الكردي ضد الاستبداد التركي. وبعد قرن كامل من اندلاع الثورة عام 1925، يُنشر في القاهرة عام 2025 بترجمة عربية مع النص التركي، مبرزًا الدور المحوري لمصر في إنتاج المعرفة الكردية عمومًا، وفي دعم القضية الكردية خصوصًا.

تعود ثورة الشيخ سعيد بيران النقشبندي لتسجل أول انتفاضة كردية قومية مسلحة ضد الجمهورية التركية الناشئة، التي أقامت نظامًا قوميًا متطرفًا وأنكرت جميع حقوق الكرد، ثاني أكبر قومية في تركيا، الذين يسبق وجودهم في شرق الأناضول الوجود التركي ذاته.

وفي عام ١٩٢٨، أصدرت جمعية خويبون الكردية الوطنية بالقاهرة كتابا بعنوان " الإبادة الكردية في تركيا " باللغة التركية العثمانية ليوثق ثورة الشيخ سعيد بدءً من دوافعها مرورًا بملابساتها وأحداثها وأخيرًا تداعياتها والاستعداد لجولة نضالية أخري

وجدير بالتسجيل عراقة الحضور الكردى فى المحروسة على نحو بروز عائلات كردية معروفة فى النسيج المصرى ناهيك عن الطلاب الكرد خريجى رواق الأكراد بالأزهر الشريف ورموز النقشبندية والقادرية. وكما احتفظت الجغرافيا المصرية بدروب وحارات وشوارع وقرى الكردى، فقد سجل التاريخ إنجازات المصريين ذوى الأصول الكردية.

ووصلاً لهذا الحضور، أسهمت مصر بدور فاعل فى التاريخ الكردى العام عموماً وفى القضية الكردية خصوصاً وفى الهوية الكردية بالأخص. ففى 22 أبريل 1898م، ولدت كردستان باكورة الصحافة الكردية فى القاهرة باللغة الكردية واللهجة الكرمانجية بفضل جهود الأمير مقداد مدحت سليل آل بدرخان بك. وفى1سبتمبر - أيلول 1900م، ولدت أوميد (الأمل) بالقاهرة عقب رحيل شقيقتها البكر والكبرى إلى جنيف ولندن وفولكستون، وبذا، دشن الكرد فى القاهرة وعاءً معرفياً جد مهم لتكريس الكردية لغة وأبجدية وأدباً وصحافة.

ورغم أن مقداد مدحت أسس مطبعة كردستان فى منتصف عام 1898م وطبع فيها العددان الرابع والخامس باللغتين الكردية والتركية وبالأبجدية العربية والخط الفارسى، فلم تستمر التجربة. وكما كانت كردستان الصحيفة أم الصحافة الكردية، فقد كانت كردستان المطبعة أم الطباعة الكردية، وكلاهما من مواليد القاهرة المحمية. وفى عام 1908م، أسس فرج الله الكردى الإيرانى البهائى " مطبعة كردستان العلمية" بدرب المسمط من شارع الجمالية بالقاهرة الفاطمية. ومن المفارقات، اختصت كردستان العلمية بنشر أمهات الكتب الدينية الإسلامية منذ بدايتها حتى عشية ثلاثينيات القرن العشرين.(6)

وثمة إجماع على أن القاهرة تُعد محطة محورية فى النضال الكردى ضد الاستبداد التركى إبان الحقبتين الاتحادية والكمالية المتطرفتين بحق غير الأتراك. ففى أتون الحرب العالمية الأولى ( 1914-1918م)، أسس أحمد ثريا بدرخان (1883-1937م) "جمعية استقلال كردستان" بالقاهرة فى عام 1917م بغية تأسيس دولة كردية قومية عقب نهاية الحرب. ومنذ 12 سبتمبر - أيلول 1917 وحتى 28 يناير- كانون الثانى 1918م، أصدر أحمد ثريا بدرخان جريدة كردستان مجدداً باللغتين التركية العثمانية والكردية حيث ظهر منها أحد عشر عدداً. وظلت جمعية استقلال كردستان فاعلة فى القاهرة حتى بدايات عشرينيات القرن العشرين.

ومن جمعية استقلال كردستان إلى فرع "خويبون" بالقاهرة الذى نشر فى مصر المحمية و منشورات" جمعية خويبون الكردية الوطنية " بالتركية العثمانية والعربية على الأقل. وفى هذا السياق، أسهمت مصر بإمتياز فى تكريس المعرفة بالكرد وكردستان والكردية.

ففى المطبعة العربية بمصر، خرجت النشرة الأولى لجمعية خويبون الكردية الوطنية باللغة التركية العثمانية فى عام 1928م تحت عنوان" تور كيادة كوردلرك قتل عامى"، وهو الكتاب الذى نمتلك نسخة أصلية منه وننشره مع ترجمته العربية بين دفتى هذا الكتاب.

استخدمت "خويبون" أدوات العصر فى الدعاية لصالح الكرد وتكريس استبداد الأتراك. وثمة أغانى وقصائد شفوية تناقلها الكرد عن ثورة الشيخ سعيد واستقلال كردستان. وكذا، قصص قصيرة لفت جميع أنحاء كردستان. وقد تمت الدعاية المكتوبة من خلال منشورات وبيانات وكراسات تستعرض مآثر الأبطال الكرد وتسرد استبداد الأتراك قديماً وحديثاً مدعومة بالرسومات والصور.

وقد أتاحت هذه المنشورات لخويبون تحليل الأحداث السياسية، وكتبت بالفارسية لمخاطبة كرد إيران والنظام البهلوى فى إيران (1925-1979م)، وكتبت بالتركية العثمانية لكرد تركيا ونكاية فى النظام الكمالى الذى ألغى الحروف العثمانية برسمها الفارسى وأحل محلها الأبجدية اللاتينية. واستعانت "خويبون"باللغات الأوربية لاسيما الفرنسية لمخاطبة أوربا. وكانت الإصدارات العربية من نصيب مصر، وكذلك الطباعة باللغات الفارسية والتركية والعربية.

ونستطيع استنباط أيديولوجية "خويبون" من ثنايا إصداراتها لاسيما النشرة الأولى بالتركية العثمانية وترجمتها العربية المنشورة بين دفتَّى هذا الكتاب. وكذا، النشرة الخامسة الموسومة بـ "القضية الكردية- ماضى الكرد وحاضرهم " باللغة العربية، والصادرة عن مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر بالقاهرة عام 1930.

بإيجاز، ابتغت خويبون إقامة كردستان موحد، حر، مستقل" ورغم ذلك، أظهر زعماء الكرد رغبتهم على عقد توافقى مع المركز، ومن ثم، صياغة جزء من دعاية "خويبون" باللغة التركية فى محاولة لإقناع العدو- التركى بمشروعية المطلب الكردى. ولم ترفض النخبة الكردية الاكتفاء باستقلال ذاتى داخل تركيا. بيد أن الاستبداد التركى رفع من سقف مطالب الكردى، وأسبغ عنفاً على الاحتجاجات الكردية على نحو ما تجلى فى ثورة الشيخ سعيد 1925م. وأمام نير تركيا الكمالية، ابتغت الانتفاضات الكردية تغيير العلاقات الجديدة بين الكرد والمركزية الكمالية، باعتبارها غير عادلة وغير شرعية. وفى كلمة، جسّد العنف الكردي عشية قيام الجمهورية التركية إستراتيجية منطقية للحصول على " مكاسب" رغم المخاطرة. ورداً على رفض الكردية فى تركيا، انتهج الكرد خطاباً قومياً لا يقل تطرفاً، يرفض الدولة التركية بوصفها " أجنبية، وعدوة" ويُعلن حرباً لا نهاية لها إلا مع آخر خرطوشة وآخر كردى.

ركزت "خويبون" فى إصداراتها على تأصيل التاريخ النضالى للكرد والتركيز على المذابح التى تعرضوا لها، وكذا، إستراتيجيات قمعهم. ولاغرو، إذ أن مثل هذه الذاكرة تخلق التاريخ والهوية، والأبرز، تعبئة الكرد للانخراط فى الانتفاضات اللاحقة ضد الجمهورية التركية.

الجدير بالذكر أن دكتور محمد رفعت الأمام له دراسات عديدة عن الأرمن والكرد والإيرانيين واليونانيين والبهائيين ومختلف قضايا الأقليات. ومهتم بقضايا الإبادات الجماعية بكل أنواعها.

للمزيد تابع

خليجيون نيوز على: فيسبوك | إكس | يوتيوب | إنستغرام | تيك توك