وشم على القدر في قصّة "طائر الهامة" لجميل الدويهي - مصدرنا الإخبارى

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
وشم على القدر في قصّة "طائر الهامة" لجميل الدويهي - مصدرنا الإخبارى, اليوم الثلاثاء 26 أغسطس 2025 10:55 صباحاً

مصدرنا الإخبارى - كلّ من يسعفه الوقت لقراءة قصّة "طائر الهامة" لجميل الدويهي، الموسومة إسكلة بين الماضي القريب والمستقبل البعيد، يعبر صوراً من واقعٍ وُشم من حبرٍ على ورقٍ، ومن حقيقة مؤلمة على قدر وطنٍ، فتُثار في نفسه ألامٌ وبعض آمال.

بعد حوادث القصّة، رفع القلم رأسه المثقل بأوجاع الوطن، حين ظهرت الحقيقة في الخاتمة على حين غفلة من القارئ. ففي لبنان لا ينجو المقيّد بسلاسل الاتّهام إلّا لماماً، ولكن بعد فوات الأوان.

صغاراً، اعتدنا الركض في الزواريب، حاملين بنادق من خشب ومسامير، مقلدين الكبار في حروبهم العبثيّة. وشباباً، انخرطنا في حياة مملوءة بالحرب والتهجير، آلمنا الكثير من الأحداث المأساويّة، وأحزننا موت الكثير من الشباب المحارب. وكباراً، ها نحن نعود إلى تلك المرحلة التي لم ننسها، من خلال أقلامٍ كتبت وقصّت قصصاً من واقعٍ وليس من خيال.

وكانت قصّة "طائر الهامة"، حكاية وطن يبحر في يمٍّ من الأحزان، كسفينة حطّمت العاصفة دفّتها. حكاية حكت قصّة قريتين تفوح منهما رائحة المرارة في النور والظلام. وكأنّ الحبر الذي كُتبت به، والورق الذي دُوّنت عليه هما من لحمٍ ودمٍ، تلعب الأرواح بينهما بسحر الاجتماعيّات المشبعة بالبغضاء والثأر. وعند التوغّل بالقراءة، يحضرنا ألم الماضي المستدام والمؤجّل إلى نهايات لا يعلمها إلّا الله. وعلى الرغم من أنّ القصّة تعيدنا إلى همجيّة التفكير عند المجتمعات التي وُلدت من رحم الحروب، فإنّها تصف جمال انهزام الشرّ. وتظهر الشباب المتعلّم وهو يٌمسك بشعاع الشمس، حيث جمال الأقدار نهاية للمحبّين وللوطن.

تجلّى البعد الفلسفيّ خلال القصّة بلون أدبيّ مترع بمعاني فلسفيّة واستعارات وتوظيفات بلاغيّة، مما أعطاها بهاءً ورونقاً وسحراً. فلم يٌزهر الدم من رياض المجد كما خيِّل لكلّ من حمل السلاح وقاتل ابن وطنه، مدفوعاً بإيماءات خارجيّة. وزالت التباسات الحضور الإنسانيّ في ذائقة الفكر الوطنيّ عند الدويهي، فكان له منهاج كتابة، لا يستسيغه بعض من أبناء الوطن الذين أسلموا ذواتهم لمنطق الخوف من كينونة وطن وُلد مع ولادة الكوكب الأزرق: "...فمن لم يلوّث يديه بالدم يصبح خائناً للدم والتراب، ومن لم يشرب من كؤوس خيانته للإله الواحد، غضبت عليه الآلهة، ورمته في الأبديّة المظلمة حيث البكاء وصريف الأسنان" (صفحة 10).

في معظم الأحيان نحبّ بكلّ ما أوتينا من صدق وإخلاص. لكن الظروف التي تتحكّم بالمحبّين والمكان والزمان، وكلّ شيء لا يكون مناسباً، حتى القدر يعاند الآمال. وعلى الرغم من وجود أمل في بلاد غير صالحة للحبّ، كان الحبّ في قلبي المحبين سراً من الأسرار باحا به لنفسيهما، ولم ينتظرا فعل الأقدار. فالتصميم على الحياة غلب القدر الذي وصفه الدويهي بصفات تشبه سدّاً بوجه الطموح، لا يمكن عبوره من دون أن نثبت أنّ حركة الانتظام الاجتماعي والسياسي في هذا الوطن، هي حركة عكس المفاهيم ومقاصد فلسفة الدولة العادلة. وكأنّنا نرى اصطفاف هذا الشعب التائه قد تمخّض عن توغّل مجنون في تحليل الحرب وسفك الدماء، وقد صبغت قدر الوطن بالّلون القاني عوض مجابهته: "القدر لقمة مالحة. القدر فأس حطّاب تنهال على جذوعنا. القدر حجر بارد على مائدة الجياع" (صفحة 53).

وضعنا الدويهي أمام إرهاصات أزماتنا الفكريّة، التي تمنعنا من ولوج جادة الصواب نحو منهج فكريّ سليم، يٌعيد إنتاج نهج اجتماعيّ وصيغة وطنيّة قابلين للحياة، فحالة المتّهم البريء في قصّته، جسّدت العراك الفكري الفارغ من المضامين الرؤيويّة، كما جسّدت الابتذال والإسفاف العقيمين، وحالات الهروب من البحث عن الحقائق في ظلّ غياب قضاء عادل عن الوطن منذ ما قبل الحرب التي دُعيت أهليّة.

في معظم القصص والروايات ينتصر الحبّ في خواتيمها، أمّا انتصار الحبّ في قصّة "طائر الهامة" لجميل الدويهي، فكان شهوة حلم تحقّقت بخلاص العقول من الموبقات. وقد انتصر الحبّ بعد أن ابتعدت ظلمة الشرّ عن أرواح هائمة، وانحسر الموت الأسود المنتشر كالهشيم في تربة الأرض الممنوعة من الحلم، ومن ثم اختفى مع اختفاء صوت طائر الهامة، واتنفض فينيقاً من دياجير قاتمة. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق