نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"المعلّم عبدالله"... قراءةٌ تحليليّةٌ في سيرةِ شاعرٍ لبنانيٍّ من ذاكرةِ الجبلِ - مصدرنا الإخبارى, اليوم الثلاثاء 26 أغسطس 2025 10:55 صباحاً
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
صدر حديثًا عن دارِ سائرِ المشرقِ في بيروتَ (٢٠٢٥) كتابُ «المعلّم عبدالله: سيرةُ الشاعرِ عبدالله غانم» للقاضي والكاتبِ غالبِ غانم، وهو ابنُ الشاعرِ. يمثّلُ هذا العملُ أكثرَ من مجرّدِ سيرةٍ شخصيّةٍ؛ فهو محاولةٌ واعيةٌ لإعادةِ بناءِ ذاكرةٍ ثقافيّةٍ عن مرحلةٍ لبنانيّةٍ مفعمةٍ بالتحوّلاتِ. فالشاعرُ عبدالله غانم (١٩١١–١٩٧٧) ليس مجرّدَ شاعرٍ، بل هو معلّمٌ وصحافيٌّ ومثقّفٌ عضويٌّ عاش في قلبِ جبلِ لبنانَ، وبنى تجربةً أدبيّةً وتربويّةً شكّلت جسرًا بين القريةِ والمدينةِ، وبين الفصحى والمحكيّةِ، وبين التراثِ والحداثةِ.
في زمنٍ يغلبُ عليه النسيان وتهميش الأصواتِ المحليّةِ، يأتي هذا الكتابُ ليعيدَ الاعتبار لشاعرٍ ترك بصماتِه في الشعرِ والأغنيةِ والتعليمِ، وليذكّرَ بأنَّ الهوامشَ الجبليّةَ كانت في كثيرٍ من الأحيانِ منبعًا للنهضةِ.
أوّلًا: بنيةُ السيرةِ بينَ التوثيقِ والتحليلِ
اعتمدَ غالبُ غانم في كتابِه على مزيجٍ من السردِ التوثيقيِّ والتحليلِ النقديِّ. فالكتابُ ليس مذكّراتٍ عائليّةً بالمعنى التقليديّ، بل هو عملٌ أدبيٌّ-بحثيٌّ يجمعُ بين المحبّةِ والموضوعيّةِ. الكاتبُ يعرفُ تمامًا خطورةَ الكتابةِ عن الأبِ، لكنَّه يتجاوزُ فخَّ التمجيدِ العاطفيِّ ليقدّمَ نصًّا يستندُ إلى مراجعَ وقصائدَ وشهاداتٍ وتجربةٍ شخصيّةٍ.
هذا الأسلوبُ يجعلُ من السيرةِ وثيقةً فكريّةً تكشفُ شخصيّةَ عبدالله غانم بأبعادِها المختلفةِ: الشاعرِ الوطنيِّ، المعلّمِ المربّي، الصحافيِّ الجريءِ، والفاعلِ الثقافيِّ في بيئتِه الجبليّةِ. وهكذا يصبحُ الكتابُ مرجعًا لا لفهمِ الشاعرِ فحسب، بل لفهمِ جيلٍ بكامله في تاريخِ لبنانَ الثقافيِّ.
ثانيًا: الثنائيّةُ اللغويّةُ كمعادلٍ ثقافيٍّ
أحدُ أبرزِ ملامحِ عبدالله غانم أنَّه كتب باللغتينِ: الفصحى والمحكيّة.
في الفصحى، برزت قصائدُه الوطنيّة والتأمليّة التي تقارب قضايا الإنسانِ والوجودِ والوطنِ.
في المحكيّة، عبّر عن الحياةِ اليوميّةِ والحبِّ والقريةِ، ليصبحَ صلةَ وصلٍ بين رشيدِ نخلةَ وميشالَ طرادٍ، أي بين روّادِ الشعرِ العاميِّ ومطوّرِه اللاحقِ.
هذه الثنائيّة ليست مجرّدَ خيارٍ لغويٍّ، بل استراتيجيّة ثقافيّة. فالفصحى ربطتْه بالنخبةِ الفكريّةِ والأدبيّةِ، بينما جعلتْه المحكيّة قريبًا من الناسِ، خصوصًا بعدما غنّت فيروز بعضَ قصائدِه على ألحانِ الأخوين رحباني. هنا تحوّل شعرُه إلى ذاكرةٍ شعبيّةٍ عابرةٍ للطبقاتِ.
ثالثًا: «المعلّم» بين التربيةِ والثقافةِ
يلفتُ الكتابُ النظرَ إلى لقبِ «المعلّمِ» الذي رافقَ عبدالله غانم طوالَ حياتِه. لم يكن مجرّدَ شاعرٍ منعزلٍ في برجٍ عاجيٍّ، بل كان مربّيًا وصحافيًّا ومثقّفًا ملتزمًا. عمل في التعليمِ، وأطلق صحفًا محليّةً مثل «صنين» و«الدهر»، في خطوةٍ جريئةٍ من قريةٍ جبليّةٍ صغيرةٍ.
هذا الدور التربويّ يعكس إيمانَه بأنَّ الثقافةَ لا تنفصل عن التعليمِ والوعيِ الاجتماعيِّ. لقد كان جزءًا من مشروعٍ تنويريٍّ محلّيٍّ يرى في الكلمةِ وسيلةً للتغييرِ. وفي هذا تكمنُ فرادتُه: شاعرٌ يكتبُ قصيدةً، وفي الوقتِ نفسِه يعلّمُ تلاميذَه كيف يصنعون حاضرَهم.
رابعًا: قراءةٌ نقديّةٌ في عملِ غالبِ غانم
ميزةُ هذا الكتابِ أنّه لا يكتفي بعرضِ الوقائعِ، بل يقدّمُها من خلالِ مقاربةٍ نقديّةٍ-سرديّةٍ. الابنُ الكاتبُ يوظّفُ خبرتَه الأكاديميّةَ (إذ سبق أن أنجز أطروحةً عن شعرِ والده عام ١٩٩٥)، لكنَّه لا يكرّرُ نفسَه؛ بل يدمجُ بين التحليلِ الأكاديميِّ والحميميّةِ الإنسانيّةِ.
هذا المزجُ يجعلُ السيرةَ مميّزةً؛ فهي عملٌ علميٌّ رصينٌ وفي الوقتِ نفسِه قصّةٌ إنسانيّةٌ. فنحن لا نقرأ عن شاعرٍ فقط، بل عن أبٍ وابنٍ، عن جيلٍ وذاكرةٍ، عن علاقةِ الأدبِ بالحياةِ اليوميّةِ. وهنا تتجاوزُ السيرةُ بُعدَها الشخصيَّ لتصبحَ وثيقةً اجتماعيّةً وثقافيّةً عن لبنانَ في النصفِ الأوّلِ من القرنِ العشرينَ.
خامسًا: أهميّةُ الكتابِ في المكتبةِ اللبنانيّةِ اليومَ
أهميّةُ «المعلّمِ عبدالله» تكمنُ في كونِه يملأ فراغًا في الذاكرةِ الأدبيّةِ اللبنانيّةِ. فالكثيرون يعرفون عبدالله غانم بالاسمِ فقط، أو من خلالِ الأغاني الرحبانيّةِ، لكنَّ قلّةً تدركُ أنّه كان معلّمًا وصحافيًّا ومفكّرًا محلّيًّا.
الكتابُ يذكّرُنا بأنَّ الثقافةَ اللبنانيّةَ لم تُصنع كلُّها في بيروتَ؛ بل ساهمت القرى، مثل بسكنتا، في إنتاجِ أصواتٍ قويّةٍ أثّرت الوعيَ العامَّ. وهنا أرى أنَّ الكتابَ يستعيدُ الاعتبارَ للهامشِ الثقافيِّ الذي أهملَه النقدُ طويلًا.
وبرأيي، هذا الكتابُ ليس فقط إحياءً لسيرةِ شاعرٍ، بل هو درسٌ في معنى الالتزامِ الثقافيِّ: أن تكتبَ من قريتِك، أن تربّي أجيالًا، أن تغنيَ الحياةَ اليوميّةَ بالشعرِ، وأن تتركَ أثرًا يتجاوزُ حدودَ الزمانِ والمكانِ.
خاتمة: إحياءُ الذاكرةِ وتجديدُ الرؤيةِ
"المعلّمُ عبدالله" كتابٌ يعيدُ إلينا صورةَ شاعرٍ علّم بالقصيدةِ كما علّم بالقلمِ والسبّورةِ. إنّه نصٌّ يجمعُ بين الوفاءِ والموضوعيّةِ، بين الذاكرةِ والتحليلِ، بين الخاصِّ والعامِّ.
يذكّرُنا عبدالله غانم بأنَّ الكلمةَ ليست زينةً بل رسالةً، وبأنَّ التعليمَ والشعرَ والصحافةَ يمكن أن تتّحدَ في مشروعٍ إنسانيٍّ واحدٍ. أمّا غالبُ غانم، فنجح في أن يقدّمَ سيرةَ أبيه كجزءٍ من تاريخٍ ثقافيٍّ جماعيٍّ، لا مجرّدَ تقديسٍ لأبٍ راحلٍ.
في زمنٍ يعجُّ بالضوضاءِ وتقلُّ فيه الأصواتُ الأصيلةُ، يشكّلُ هذا الكتابُ صوتًا واضحًا حاضرًا، يربطُ ماضينا بذاكرتِنا، ويمنحُنا مثالًا لشاعرٍ معلّمٍ عاش من أجلِ الكلمةِ والإنسانِ.
0 تعليق