التوازن بين القوانين والمفاهيم الاجتماعية

التوازن بين القوانين والمفاهيم الاجتماعية

كان احتفال تونس بذكرى صدور مجلة الأحوال الشخصية في 13 آب/ أغسطس 1956 مناسبة لتقييم وضع المرأة التونسية. وكالعادة اختلف التقييم بين شقين، أحدهما يركز على ما تحقق من إنجازات تعد رائدة (بالمقارنة مع بقية العالم العربي والإسلامي) وشق يرى هذه المكاسب مهددة ومحتاجة إلى تطوير.

 

في هذا الإطار، طالبت مجموعة من المثقفين “الحداثيين” بإعادة النظر في بعض محتويات مجلة الأحوال الشخصية من أجل تخليصها ممّا تراه “مواد تمييزية” تعوق تمتع المرأة بحقها في المساواة الكاملة مع الرجل مثل تنصيصها على أن الزوج “رئيس العائلة” وعدم إقرارها بمبدأ المساواة في الميراث بين الجنسين.

 

تحيل هذه المطالبات إلى إشكالية دائمة في تونس تتمثل في البون الفاصل بين مواقف النخبة الساعية للتطوير ومواقف شرائح واسعة من المجتمع تغلب عليها النزعة المحافظة، وبين الاثنين يقف عادة صاحب القرار السياسي حكماً يعود إليه في نهاية المطاف القرار حول ما إن كانت البلاد جاهزة لإصلاح جديد قابل للتطبيق.

 

كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الأكثر جرأة بسنّه مجلة الأحوال الشخصية بعد شهور فقط من الاستقلال رغم معارضة المتزمتين. ولكن بورقيبة كان يتمتع بزعامة كاريزماتية وولاء شبه مطلق من الجمهور الواسع يسمحان له بتمرير كل قراراته. لم يرث أحد عنه نفس الكاريزما وتغيرت الظروف من بعده. ولم يعد صاحب القرار قادراً على سن التشريعات دون الأخذ في الاعتبار المواقف المتحرزة أو المعارضة. حافظ الرئيس بن علي على الحقوق التي تضمنتها مجلة الأحوال الشخصية وطوّر بعض جوانبها على غرار إلغائه للفصل الذي يفرض على المرأة “طاعة زوجها” ويعوّضه بالتنصيص على أن الزوج “رئيس” الأسرة في إطار علاقة بين الزوجين مبنيّة على مبدأ الشراكة والتعاون. واتخذ قائد السبسي العديد من المبادرات لفائدة المرأة من بينها إلغاء الأمر الوزاري الذي كان يمنع زواج المسلمة بغير المسلم وتمرير قانون تجريم العنف ضد المرأة. كذلك حاول التنصيص قانوناً على المساواة في الميراث في خطوة لم يتجرأ عليها لا بورقيبة ولا بن علي.

 

رحل قائد السبسي قبل أن يتمكن من تقديم مشروع قانون في هذا الاتجاه، وإن كانت هناك أغلبية ترفض الفكرة مثلما أظهرت استطلاعات الرأي أيامها. اليوم يتوجس المدافعون عن حقوق المرأة مما يرونه تهديداً لهذه الحقوق مثل الدعوات التي تظهر أحياناً لإلغاء منع تعدد الزوجات وبعض المؤشرات مثل ضعف مشاركة المرأة في مراكز القرار (رغم وجود امرأة على رأس الحكومة) وتزايد جرائم العنف ضد المرأة.

 

رغم هذه الهنات يرى الكثيرون أن الحل لا يكمن في سن قوانين جديدة قد تلقى صدى لدى المجتمع بل في معالجة العوامل التي تؤثر في العقليات من بينها محتويات وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي ومناهج التعليم والمنابر الدينية. كلها عوامل قد تؤدي إلى تشكيل مواقف لدى الأفراد تسير في الاتجاه المعاكس لما تنشده النخبة. فالعقليات قد تعرقل تطبيق القوانين والسياسات الرائدة، وهي التي تخلق الفرق بين الواقع والمأمول، من ذلك مثلاً استمرار وجود نسبة للبطالة لدى الإناث تفوق نسبتها لدى الذكور، حتى إن كانت الفتيات يمثلن 70 في المئة من خريجي الجامعات.

 

رغم هذا التوجس لا يبدو المجتمع التونسي على أبواب نكوص عن حقوق المرأة، ذلك ليس فقط نتيجة دفاع النخب عنها بقدر ما هو عدم استعداد أغلبية النساء في تونس للتخلي عن حقوق يرين أنه لا رجعة فيها مثلما برهنّ عن ذلك كلما حاول البعض المسّ بها.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *