
ليس المطلوب نشوء حرب سُنّية – شيعيّة في لبنان رغم أن قلوب غالبية المنتمين إلى المذهبين المسلمين “ملآنة” في ما بينهما، علماً أن العواطف المتبادلة بين الفريقين لم تكن ودّية رغم المجاملات في عدد من المناسبات الدينيّة. لا يعود ذلك إلى تسامح الفريقين بل إلى أمر أساسي ومهم هو أن السنّة لم يتسلّحوا في لبنان بعد انتهاء الحرب وقبول اللبنانيين جميعهم اتفاق الطائف، علماً بأنهم أقدموا على ذلك وإن بنسبة غير مرتفعة بعد بدء حرب 1975. والسبب اعتماد اللبنانيين السنّة على الفلسطينيين العرب السنّة الذين أمسكوا بـ”لبنان العربي” إذا جاز التعبير على هذا النحو في تلك المرحلة. لكنهم بعد اندحار لبنان بسنّته وشيعته ودروزه ومسيحييه أمام إسرائيل التي هاجمته واحتلت جنوبه وبعض بقاعه الغربي وجبله والعاصمة بيروت، وبعد ترحيل المقاتلين الفلسطينيين من لبنان نتيجة لتلك الحرب، انكفأ السنّة عن الحروب والتسلّح، واكتفوا بدور سياسي قام به زعماء كبار لهم هدفوا من ورائه إلى إنهاء العنف وعودة السلام إلى البلاد.
قد يكون أحد دوافع الموقف السنّي هذا شعور الاطمئنان العميق داخلهم بأنهم لم يخسروا في النهاية. فالعالم العربي سنّي وتركيا التي حكمت الجميع على مدى خمسة قرون سنّية أيضاً رغم علمانيتها المستمرّة، والعالم الغربي معادٍ لإيران الإسلامية التي بدأت، بعد عقود أمضتها في تثبيت ثورتها، تصدير هذه الثورة إلى العالم العربي. الهدف الذي رفعته كان إزالة إسرائيل المغتصبة أرض فلسطين العربية مهجّرة شعبها العربي السنّي في معظمه. هذا فضلاً عن الاقتناع بأن العالم الغربي الذي تتحدّاه إيران منذ عقود واقف لها بالمرصاد ولن يسكت لها. وقد تحقّق ذلك أخيراً بعد “طوفان أقصى” “حماس” في غزّة إذ دُمِّرت الأخيرة وسقطت سوريا الأسدين التي حكمت سوريا ولبنان نحو 54 أو 55 سنة، والعراق الإيراني بدأ يهتز ولا أحد يعلم موعد خروج إيران منه وإنهاء وصايتها عليه أو حكمها له بواسطة حلفاء لها هم نسخة طبق الأصل عن “حزب الله” في لبنان. ما يجعل هذا الهدف غير مستحيل التحقيق وجود قوميّتين في العراق هما العرب السنّة والأكراد، لا توافقان على النظام القائم في البلاد الذي كان لإيران دور مهم فيه، والذي أعطى السلطة للعرب الشيعة البالغ عددهم نحو 60% من شعب العراق. يعني ذلك أن تغيّر الأوضاع في المنطقة “سيعدي” العراق وشعوبه ولا سيما في ظل النجف الأشرف العراقي العربي المحترم من كل شيعة العالم والحريص على وحدة العراق وعلى استقلاله، حتى عن إيران، وعلى إقامة نظام عادل فيه يشعر كل من “شعوبه” الكبيرة الثلاثة بالأمن والأمان والمساواة. لكن كل هذه الأمور والتطورات ولا سيما بعد ثورة سوريا الإسلامية السنّية وإن غير “راكزة” بعد تدفع مسلمي لبنان السنّة إلى التفاؤل وإن بحذر بمستقبل بلدهم ولا سيما بعد إصابة “حزب الله” و”حركة أمل” وهما ثنائية متماسكة رغم كل الظواهر المخالفة وقد أصيبتا بجروح عميقة جداً جرّاء الهزيمة وإن غير المكتملة لإيران على يد إسرائيل وأميركا كما على يد السوريين والعرب والأتراك الذين تضامنوا لإحلال سلام في الشرق الأوسط العربي لا هيمنة إيرانية إسلامية شيعية فيه.
هل يعني ذلك أن المشاكل انتهت في العالم العربي؟ لا يمكن الجزم بذلك. فنهايتها تتوقّف على إقلاع إيران عن طموحاتها الجامحة الفارسية والشيعية وفي إعادة النظر في تقييمها لتحالفاتها مع الدول الكبرى المنافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا والدول الأصغر أي كوريا الشمالية وفنزويلا. فمصالح هذه الدول وأخرى كثيرة غيرها هي التي تحدّد تعاملها مع الدول الأخرى لا العواطف ولا سيما في ظل اقتناع العالم بأن ما تسعى إليه إيران هو إمبراطورية تبدأ من العالم العربي ثم تنتقل إلى العالم الإسلامي وربما تمتد خارجه. لذا عليها أن تتخلّى عن وهم الاعتقاد بأن الدول المذكورة أعلاه ستغامر بحرب مع أميركا وحتى مع إسرائيل كرمى لعيون الجمهورية الإسلامية الإيرانية. في هذا المجال تدعو مصادر ديبلوماسية غربية مطّلعة إيران إلى التخلّي عن وهم الانتصار على الأقل الآن وفي المستقبل المنظور. وهو هدف قد يفتح تحقيقه باب العالم الإسلامي العربي وغير العربي أمام إيران. لكنه لا يزال مستحيلاً حتى الآن على الأقل. انطلاقاً من ذلك ربما يكون على إيران الهدوء والتروّي والتخلّي عن حُلم إقامة إمبراطورية فارسية شيعية في الشرقين العربي والإسلامي كما فعل العثمانيون في الماضي. فلكل عصر ظروفه ولا بدّ من أخذها في الاعتبار.
ماذا عن “حزب الله” وعن المسيرة التي بدأها في لبنان عام 1982 ونجحت بعد عقود في تنفيذ مشروعها الإقليمي الإسلامي الواسع بمساعدته بل بانخراطه كلياً في حروب تنطلق من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن. وهي تهيّئ أجواء زعزعة الاستقرار في دول عدة أخرى كبيرة ومتوسطة وصغيرة في آن واحد؟