
نوال حسن المطيري
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أخذ العالم يتداول مصطلحًا جديدًا سرعان ما تمدّد في الإعلام والسياسة: الإسلاموفوبيا. صار الخوف من الإسلام، بكل ما يحمله من عقيدة وحضارة وتاريخ، مرادفًا للإرهاب، وأصبحت صور المسلمين في نشرات الأخبار تتماهى مع مقاتلي الجماعات المتطرفة، حتى لو كان مليار ونصف المليار مسلم أبعد ما يكونون عن ذلك. إن هذا المصطلح لم ينشأ من فراغ، بل كان جزءًا من ماكينة ضخمة هدفت إلى بناء عدو رمزي يبرر الحروب، ويسوّغ التدخلات، ويشرعن السياسات الأمنية المتشددة. لكن المفارقة أن العالم الذي استساغ إنتاج هذا الوصف ضد الإسلام، لم يجرؤ على إنتاج مصطلح مقابل يصف الخوف من الصهيونية أو يواجه عنفها المنهجي، رغم أن الصهاينة مارسوا على مدى عقود ما يفوق الإرهاب المنسوب إلى أي جماعة أخرى. وهنا تبرز الحاجة إلى تسمية مهملة عمدًا: صهيون-فوبيا.
الصهيونية لم تُخفِ يومًا مشروعها القائم على الطرد والتهجير والإبادة الرمزية. المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، أحد أبرز “المؤرخين الجدد” الذين نبشوا أرشيف 1948، اعترف بوضوح بأن الترحيل كان عملية مقصودة، لكنه لم يتوقف عند حدود الاعتراف بل تجاوزه إلى تبرير العنف. ففي مقابلة شهيرة عام 2004 قال: “كان على بن غوريون أن يُكمل مهمة الترحيل بأكملها… ربما كان يمكن إنهاء الأمر مرة واحدة وإلى الأبد”. كلمات كهذه لا تأتي من زعيم ميليشيا أو متطرف هامشي، بل من مؤرخ أكاديمي يضع العنف في خانة “الحلول التاريخية”. هنا لا يعود القتل جريمة، بل أداة استراتيجية لبناء الدولة.
ولم يكن موريس وحده في هذا المسار. فقد ذهب قادة سياسيون إلى ما هو أبعد من التبرير. إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الأسبق، اتهم خلفه نتنياهو بشكل صريح بأنه يغطي جرائم المستوطنين في الضفة الغربية، ويدعم ما يرتكبونه من اعتداءات على الفلسطينيين. تصريح كهذا، صادر من قلب المؤسسة، يعرّي الكيفية التي يُصان بها العنف: فهو ليس انحرافًا فرديًا بل سياسة ممنهجة. عندما تصبح حماية المعتدين جزءًا من أجندة الدولة، فإننا أمام حالة من التطبيع الكامل مع القتل، حالة لم يجرؤ أحد أن يطلق عليها مصطلحًا مثل “صهيون-فوبيا” رغم أنها تمثل نموذجًا حيًا له.
وحتى أولئك الذين دقوا ناقوس الخطر من الداخل لم يسلموا من الإهمال. يشاياهو ليبويتز، المفكر الإسرائيلي البارز، حذّر منذ عقود من أن الاحتلال سيحوّل إسرائيل إلى “دولة بوليسية سرية”، وأن السيطرة على شعب آخر ستفسد المجتمع الإسرائيلي نفسه. لكن هذه التحذيرات لم توقف آلة الاستيطان، بل على العكس، تحولت إسرائيل مع الزمن إلى مجتمع يحتضن خطابًا متطرفًا يرى في الفلسطيني عائقًا يجب محوه، لا إنسانًا يستحق حياة كريمة.
الإعلام العالمي لعب دوره في ترسيخ هذه الصورة الناقصة. فحين يرتكب فلسطيني عملية فردية ضد جندي مدجج بالسلاح، تتصدر العناوين بكلمة “إرهاب”. وحين يقوم جيش كامل بقصف غزة أو اقتحام جنين أو قتل الأطفال في نابلس، تأتي الأخبار بلغة باردة: “إسرائيل تدافع عن نفسها”. هذه اللغة ليست بريئة، بل هي جزء من صناعة الوعي. هي اللغة التي جعلت الإسلاموفوبيا مصطلحًا راسخًا، بينما تركت صهيون-فوبيا في طي الإهمال. الفارق هنا ليس في حجم العنف، بل في من يملك سلطة صياغة المصطلحات وفرضها على العالم.
لكن العالم لم يخلُ من أصوات كشفت المستور. المؤرخ يهودا باور، أحد أبرز دارسي الهولوكوست، حذّر علنًا من أن إسرائيل قد تنزلق إلى أفعال تصل إلى مستوى الإبادة، مشيرًا إلى نشر منشورات داخل إسرائيل تدعو إلى التطهير العرقي. أن يأتي هذا الكلام من باحث كرّس حياته لدراسة الإبادة الجماعية، فذلك يضفي مصداقية مخيفة على الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون يوميًا. ومع ذلك، لم يُترجم هذا التحذير إلى مصطلح جديد يفضح العنف الصهيوني كما فُضح العنف المزعوم لدى المسلمين.
في هذا السياق، يصبح اقتراح مصطلح “صهيون-فوبيا” أكثر من مجرد لعبة لغوية. إنه محاولة لتسمية الرعب الحقيقي الذي يعيشه الفلسطينيون، والخوف المشروع الذي يسكن كل بيت مهدد بالهدم، وكل طفل يعيش تحت طائرات مسيّرة، وكل أسرة تُطرد من أرضها لصالح مستوطن جاء من وراء البحر. هذا ليس خوفًا مرضيًا مثل الإسلاموفوبيا التي اختلقت صورة وهمية عن “الخطر الإسلامي”، بل خوفٌ حقيقي من أيديولوجيا تستند إلى نصوص توراتية مؤدلجة وإلى سياسات عسكرية يومية.
المعركة الحقيقية اليوم هي معركة على الوعي. وكما صُنعت الإسلاموفوبيا في غرف التحرير ومراكز البحوث لتصبح حقيقة راسخة في ذهن الغربي العادي، فإن معركة تسمية “صهيون-فوبيا” هي معركة ضد هذا الصمت العالمي. إن الأسماء تصنع الواقع، والمصطلحات تخلق الشرعية أو تنزعها. حين نصف قتل الفلسطينيين بأنه “دفاع”، فإننا نمنح القاتل شرعية. وحين نجرؤ على وصف الصهيونية بما هي عليه: مشروع توسعي عنيف يستحق أن يخافه العالم، فإننا نعيد التوازن إلى الخطاب العالمي.
اليوم، وبعد عقود من الاحتلال والقتل، لم يعد السؤال: هل إسرائيل تمارس العنف؟ بل: كيف نجح العالم في تطبيع هذا العنف إلى درجة الصمت؟ إن “صهيون-فوبيا” ليست دعوة إلى كراهية، بل دعوة إلى تسمية الأشياء بمسمياتها. إنها محاولة لإعادة الاعتبار للضحايا، وتذكير العالم بأن الخوف من الصهيونية ليس وهمًا، بل حقيقة يومية يعيشها ملايين البشر، ومع ذلك تُغلفها وسائل الإعلام بطلاء زائف من الشرعية.
لقد آن الأوان لأن ندرك أن معركة الحرية تبدأ بالكلمات. الإسلاموفوبيا صنعت صورة مزيفة وفرضتها على الوعي الجمعي، بينما صهيون-فوبيا لم تُمنح فرصة الظهور. ربما لأن ظهورها سيعرّي تواطؤ العالم، وربما لأن الاعتراف بها سيهدم أساطير كثيرة. لكن المؤكد أن الشعوب لا تحتاج إلى إذن كي تُسمّي جراحها. والفلسطينيون، ومعهم كل من يرى الحقيقة، يملكون الحق الكامل في أن يقولوا للعالم: الخوف من الصهيونية ليس مرضًا، بل وعيًا.
كاتبة سعودية