
غالباً ما يبدو الحديث حول الذكاء الاصطناعي عالمياً كأنه يجري في غرفتين منفصلتين، حيث تسلط الأضواء في الأولى على النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) وقدرتها اللافتة على توليد النصوص والصور وحتى الأكواد البرمجية، فتتصدّر العناوين وتجذب اهتمام الرأي العام.وعندما يتحدث الناس عن الذكاء الاصطناعي، فإنهم يتخيلون أنظمة تتعلم فقط من كميات هائلة من البيانات، وتتعرف على الأنماط وتتنبأ بالمستقبل استناداً إلى معلومات من الماضي.
إن اعتماد نماذج الذكاء الاصطناعي التقليدية على البيانات ومنهجية التعلّم عبر التجربة والخطأ في التعرف على الأنماط يفرض قيوداً كبيرة، لا سيما في القطاعات الحيوية، فلو تأملنا الكم الهائل وتنوع البيانات والمعلومات التشغيلية في صناعات معقدة مثل النفط والغاز، والطاقة، والبنى التحتية، على سبيل المثال لا الحصر، لأدركنا أن تدريب نموذج شامل يغطي جميع السيناريوهات المحتملة أو الاعتماد على البيانات التاريخية والأنماط الإحصائية وحدها يشكل مهمة شبه مستحيلة.وغالباً ما تُخفق هذه النماذج أو تقع في فخ «هلاوس الذكاء الاصطناعي»، وتحديداً في اللحظات التي تكون فيها الحاجة إلى الذكاء في أقصى درجاتها، بما في ذلك الحالات الشاذة، والتغيرات المفاجئة، والظروف التي يصعب التنبؤ بها، فمنصة نفطية في عرض البحر أو برج توليد كهرباء في صحراء نائية تحكمها قوانين فيزيائية معقدة، وإذا ما تعاملنا مع هذه الأنظمة كما لو كانت «صناديق سحرية سوداء»، كما تفعل العديد من نماذج الذكاء الاصطناعي التقليدية، فإن انهيارها يصبح مسألة وقت لا أكثر، لقد شهدنا بأنفسنا حالات أهدرت فيها الشركات ملايين الدولارات على نماذج وخوارزميات عامة أثبتت كفاءتها في بيئة المختبر، لكنها تعثّرت عند أول احتكاك مع الواقع المتغير وغير المتوقع للأنظمة الفيزيائية.
الحلقة المفقودة.. الذكاء الاصطناعي المستند إلى الفيزياء
في الغرفة الأخرى، تدور محادثة أكثر هدوءاً، لكنها على قدر كبير من الأهمية، حول الذكاء الاصطناعي، محادثة تركز على دمج الفهم العلمي مباشرة في نماذج الذكاء الاصطناعي، واستكشاف الإمكانات الهائلة لهذا النهج في التصدي لأكثر التحديات تعقيداً في العالم الحقيقي، لا سيما في القطاعات الحيوية.وهنا تكمن جوهرية الذكاء الاصطناعي المستند إلى الفيزياء، فعلى عكس النماذج المعتمدة كلياً على البيانات، تأتي نماذج الذكاء الاصطناعي القائمة على الفيزياء وقد «تدرّبت مسبقاً» على القوانين الأساسية في الفيزياء والكيمياء والهندسة، هذه النماذج لا تعتمد على التخمين، بل تفهم الأنظمة التي صُممت لتحليلها، وتُدرك القوانين الطبيعية التي تحكمها.يمكن تشبيه الذكاء الاصطناعي القائم على البيانات بأنه طاهٍ يلتزم تماماً بكتاب وصفات، فالنماذج اللغوية الكبيرة تُجيد تكرار المكونات وإعادة مزجها وفقاً لما تم تدريبها عليه، غير أن هذا النهج يواجه تحديات كبيرة عندما يتطلب الموقف ابتكار حل جديد بالكامل أو الاستجابة لظروف غير متوقعة لا توجد لها سوابق في «كتاب الوصفات»، في مثل هذه الحالات تُظهر النماذج الإحصائية التقليدية قصورها بسبب افتقارها للفهم العلمي العميق، في المقابل يشبه الذكاء الاصطناعي المستند إلى الفيزياء وجود مطبخ احترافي متكامل مدعوم بفهم راسخ لعلم الطهي، ما يتيح إمكانيات الابتكار والتكيّف، وعدم الاقتصار على التكرار.
أسلوب عمل هذا النموذج وأسباب نجاحه
يرتكز هذا النهج على مفهوم نطلق عليه في نيبل اسم التوأم الرياضي المستند إلى الفيزياء (Physics-Informed Mathematical Twin – PIMT)، ويتطلب إنشاء هذا التوأم جهداً هندسياً مكثفاً لبناء تمثيل رياضي لأصل أو نظام ما، مستنداً إلى القوانين الفيزيائية التي تحكمه، وبمجرد تطوير هذا التوأم الرياضي، يصبح قابلاً للتطبيق عالمياً على ذلك الأصل المحدد عبر مختلف الوظائف والشركات، فعلى سبيل المثال يمكن لتوأم رياضي مصمم لمضخة كهربائية غاطسة (ESP) أن يعمل مع أي مضخة من هذا النوع، من أي مصنع في العالم، دون الحاجة إلى تعديلات إضافية، ويُظهر هذا النموذج تبايناً واضحاً مع النماذج المعتمدة على البيانات، التي غالباً ما تكون مرتبطة بعلامة تجارية محددة أو مجموعة بيانات بعينها.تمتاز النماذج المستندة إلى الفيزياء بصلابة وموثوقية أعلى بكثير، خصوصاً في البيئات التي تفتقر إلى بيانات كافية أو تكون فيها البيانات غير دقيقة أو متضاربة، كما تتفوق في التعامل مع الحالات غير المألوفة التي لم يسبق رصدها، فهي لا تكتفي بتحليل ما هو معروف، بل تملك القدرة على التنبؤ بالسلوك في ظروف جديدة كلياً، وتفسير نتائجها بشكل واضح ومنطقي، وهذا ما يميزها عن كثير من نماذج التعلم العميق التي غالباً ما تعمل كصناديق سوداء يصعب فهم كيفية توصلها إلى نتائجها.فعلى سبيل المثال، في قطاع الطاقة، يمكن للذكاء الاصطناعي المستند إلى الفيزياء أن يُحسّن عمليات الحفر، ويتنبأ بأعطال المعدات في الحقول النفطية النائية، ويسهم في تعزيز استقرار شبكات الطاقة المتجددة، أما في قطاع التصنيع، فيمكنه التنبؤ بحالة تآكل المعدات بدقة غير مسبوقة، ما يتيح تطبيق مفاهيم الصيانة التنبؤية ويؤدي إلى تقليل فترات التوقف والتكاليف بشكل كبير.
فهم مسار التبني والتطبيق
من المهم الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي المستند إلى الفيزياء لا يخلو من التحديات، إذ إن إنشاء النموذج الأولي قد يستغرق وقتاً، نظراً لما يتطلبه من تأسيس علمي دقيق وجهد هندسي كبير في المراحل الأولى، فبناء التوأم الرياضي المستند إلى الفيزياء (PIMT) يستلزم خبرات متخصصة لترجمة المفاهيم العلمية إلى نموذج قابل للتطبيق، وعلى الرغم من أن القوانين العلمية الأساسية تكون غالباً متاحة للعامة، فإن تحويلها إلى نموذج رياضي عملي وجاهز للتطبيق يبقى عملية معقدة.كما أن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي لا يزال في مراحل التبني المبكرة، وهو ما تؤكده مؤشرات مثل «دورة الضجيج التكنولوجي» (Gartner Hype Cycle)، وقد يشعر بعض العملاء بالتردد في البداية تجاه هذه التقنية الجديدة، نظراً لأنها لا تعمل كنموذج «صندوق أسود» بسيط، لكن ما إن يتم استعراض عمق فهمها العلمي واتساع نطاق استخدامها، حتى تتسارع وتيرة تبنيها بشكل ملحوظ.
فما هو مستقبل الذكاء الاصطناعي المستند إلى الفيزياء؟
لا يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى إعادة اختراع، بل إلى إعادة توجيه، فقيمته الحقيقية لا تكمن في إنتاج النصوص أو الصور، بل في قدرته على التصدي لتحديات كبرى تمس بقاء الإنسان وتقدمه، من صيانة البنية التحتية للطاقة، وتحسين كفاءة الزراعة، إلى إدارة مرافق المدن الذكية وضمان استمرارية العمليات الصناعية.تتطلب هذه التحديات نموذجاً من الذكاء الاصطناعي يتجاوز مجرد اكتشاف الروابط والإشارات في البيانات، ليصل إلى فهم حقيقي للعلاقات السببية، والقوانين الفيزيائية، والسلوك الكلي للأنظمة، ورغم أن هذا التوجه قد يبدو للبعض نظرياً أو بعيد المنال، إلا أن النماذج المستندة إلى الفيزياء تُستخدم بالفعل اليوم في بيئات معقدة وعلى نطاق واسع، ومن المتوقع أن تتحول خلال السنوات القليلة المقبلة من حل متخصص إلى عنصر أساسي يشكّل جوهر الذكاء التشغيلي في مختلف الصناعات.