نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أساطير غير شرعيّة - مصدرنا الإخبارى, اليوم الثلاثاء 26 أغسطس 2025 01:55 صباحاً
مصدرنا الإخبارى - توماس رومر*
نشرت الراحلة فرانسواز سميث في عام 1994 مقالة ناقدة ومؤثرة وشديدة اللهجة حول الطريقة التي تستخدم بها بعض الأوساط المسيحية (خاصة البروتستانتية) النصوص التوراتية لتأخذ موقفاً في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وفي وقت كتابة هذا الكتاب، كانت اتفاقيات أوسلو قد أعادت الأمل في إحلال سلام دائم بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. لكن هذه المحاولة لإحلال السلام باءت بالفشل بعد اغتيال إسحاق رابين في عام 1995 على يد طالب إسرائيلي متطرف.
وكان إسحاق رابين نفسه قد انتقد الإشارات إلى الكتاب المقدس في النقاش حول توزيع الأراضي بهذه الملاحظة الصائبة: "الكتاب المقدس ليس سجلاً عقارياً ولا خريطة جغرافية". فبعد ثلاثين عاماً على اغتيال رابين، لا يزال استخدام الكتاب المقدس لحل النزاع أمراً راهناً، وللأسف لم يفقد نص فرانسواز سميث (فرانسواز سميث-فلورنتان، «أساطير غير شرعية»، مقالة عن أرض الميعاد، لابور آند فيديس، جنيف، 2025. هذا النص مأخوذ من مقدمة هذا الكتاب) أيّ شيء من أهميته. ولهذا السبب قررت دار النشر Labor et Fides إعادة طباعته.
يتجسد التحالف بين بعض الأوساط الإنجيلية الأميركية والرئيس ترامب في كتاب "God Bless the U.S.A Bible" أو "Trump Bible" (الذي طُبع في الصين مقابل بضعة سنتات!) والذي يحتوي، بالإضافة إلى العهدين القديم والجديد، على دستور الولايات المتحدة ونصوص تأسيسية أخرى. من المفترض أن تحتوي هذه التوراة على إجابات عن جميع الأسئلة، وهي تُعرض على هذا النحو في المدارس في العديد من الولايات الأميركية. وهي بالتأكيد لا توصف بأنها مصدر للأساطير، على الرغم من أنها كذلك. وفق ما تقول فرانسواز سميث: "التوراة هي على الأرجح واحد من أكبر المصادر الأسطورية في العالم".
ثم يطرح السؤال حول كيفية قراءة هذه النصوص. تحلّل مقالة فرانسواز سميث عدداً من المقاربات التي تجعل من النصوص التوراتية «أساطير غير شرعية». ليست الأساطير بحدّ ذاتها غير شرعية: فهي تبني هوية سردية، وهي، بحدّ ذاتها، مثيرة للاهتمام وقيّمة. لكن الاستخدام الذي يُعطى لها، وتطبيقها تطبيقاً غير مناسب ومسيئاً في سياقات معاصرة، هو ما يحرفها عن غرضها الأصلي. تضع الكاتبة حداً لقراءة من نوع "تاريخ الخلاص"، حيث يبدأ الله "بالترويج لنفسه" مع إبراهيم، مستخدماً التربية من خلال الخروج من مصر، ولكن أيضاً من خلال الكوارث، مثل سقوط السامرة، وتدمير القدس والمنفى البابلي، ليكشف عن نفسه في النهاية في يسوع المسيح، محولاً موته إلى انتصار على الموت بقيامته.
يدور في اللاهوت البروتستانتي نقاش حول ما إذا كانت قصة الخلاص أو الوحي الإلهي مستمرة في تاريخنا المعاصر. وقد تم تطوير هذا النهج في ألمانيا (الغربية) بعد الحرب تحت شعار "Offenbarung als Geschichte" (الوحي كتاريخ)، مع فكرة أن التاريخ، الذي يُنظر إليه على أنه أفق اللاهوت المسيحي، يسمح بفهم العمل الإلهي في العالم. فجميع الأسئلة اللاهوتية والإجابات عنها لا معنى لها إلا في سياق التاريخ الذي يربط الله بالبشرية، ومن خلالها بجميع مخلوقاته، من أجل مستقبل لا يزال مخفياً عن العالم، ولكن قد كُشف عنه بالفعل في يسوع المسيح. هذه المركزية المسيحية تجعل من إسرائيل في الوقت نفسه علامة على الاختيار الإلهي والمصالحة الإلهية.
بدأت بعض التيارات البروتستانتية في البحث عن آثار العمل الإلهي في التاريخ، واعتبرت إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 علامة على أن الاستعادة التي أعلن عنها في بعض النصوص النبوية كانت في طريقها إلى التحقق. هذه الرؤية تجعل من الكتاب المقدس شيفرة سرية يجب فك رموزها، وفق ما كانت تزعم بعض المنشورات في أواخر القرن العشرين، والتي سرعان ما كُشف عن زيفها، على الرغم من أن بعض الأوساط لا تزال تعتقد أن كل شيء مكتوب في الكتاب المقدس. وتُعد مقالة فرانسواز سميث بمثابة علاج لمثل هذه الاستخدامات للكتاب المقدس التي، إلى جانب عواقبها الجيوسياسية، تشكل إهانة لواحدة من أهم المكتبات في تاريخ البشرية.
حتى يومنا هذا، هناك عدد من الكتب الموجهة إلى عامة الناس التي تؤكد تاريخية الروايات التوراتية. والفكرة الكامنة وراء ذلك هي أن «الكتاب المقدس يقول الحقيقة» («Und die Bibel hat doch Recht» حسب كتاب صدر في الخمسينيات وترجم إلى الفرنسية بعنوان «La Bible arrachée aux sables» الكتاب المقدس الذي انتُشل من الرمال). ولدعم هذا الادعاء، غالباً ما يُستشهد بالآثار: «لقد أثبتت الآثار أن...». لكننا ننسى أن علم الآثار (خاصة الآثار التوراتية) هو علم تفسيري بقدر ما هو علم تفسير الكتاب المقدس.
وبعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، ساهمت الآثار في صياغة الرواية التأسيسية للدولة الفتية التي أنشأت منذ تأسيسها إدارة وطنية للآثار. وأصبحت الآثار أحد مصادر بناء الهوية التي تؤكد الاستمرارية منذ الفتح وحتى الوقت الحاضر. على عكس النهج النقدي للدراسات الكتابية الذي ساد معظم الجامعات الألمانية والأنكلوسكسونية في ذلك الوقت، أصبح الكتاب المقدس (مرة أخرى) وثيقة تاريخية تسمح بتأكيد استمرارية تاريخية منذ عصر الآباء. بعد مسيرة عسكرية – كان نائب رئيس الأركان خلال حرب 1948 – بدأ يغال يادين أعمال التنقيب، ولا سيما في قمران ومجدو وجيزر، حيث اعتقد أنه عثر على بوابة مدينة من عهد سليمان. وكان الهدف من الحفريات في حاصور هو تأكيد صحة الفتح المذكور في سفر يشوع، في إطار "علم الآثار التوراتي". ويُقال إن ديفيد بن غوريون كان أول من ربط بين فتح يشوع للأرض وحرب الاستقلال عام 1948. عززت الحفريات التي أجراها يادين في مسعدة بين عامي 1963 و1965، في أعقاب حفريات أخرى، أهمية هذا الموقع كرمز للمقاومة اليهودية. وأقيمت جنازة وطنية للهياكل العظمية التي عُثر عليها في إحدى المغاور وداخل قصر هيرودس، والتي حددها يادين على أنها تخص آخر المقاتلين اليهود في مسعدة. لم يكن بناء المتنزهات الوطنية في مسعدة ومجدو وأماكن أخرى كثيرة مدفوعاً بدوافع علمية بقدر ما كان مدفوعاً بفكرة تجسيد الاستمرارية مع الأرض منذ عهد الآباء والأجداد والغزو.
شكلت أعمال إسرائيل فينكلشتاين، التي لخصها في كتابه الأكثر مبيعاً La Bible dévoilée (2002)، الذي شارك في تأليفه مع ن. سيلبرمان، نقطة تحول في علم آثار "الأرض المقدسة". وأظهر فيه خاصة أن الصورة التي تقدمها التوراة عن إسرائيل التي غزت البلاد من الخارج لا تتطابق مع البيانات الأركيولوجية، بل إنها عملية بطيئة ومتفرقة في سياق الاضطرابات العالمية في أواخر العصر البرونزي الحديث. فإسرائيل "ولدت في الجبال من السكان الأصليين الذين أرادوا الهروب من سيطرة المدن-الدول في السهل. إن التناقض الذي نجده في الكتاب المقدس بين الإسرائيليين والكنعانيين ليس تناقضاً عرقياً على الإطلاق، بل هو بناء يخدم أيديولوجية عنصرية. هذا الكتاب الذي تعرض لانتقادات شديدة في بعض الأوساط، يمثل تتويجاً لتحرر علم الآثار في بلاد الشام من الاستغلال اللاهوتي أو السياسي.
لقد أدركت الأبحاث الكتابية الحالية، إلى حد كبير، أهمية علم الآثار في محاولة بناء السياقات المختلفة لإنتاج النصوص الكتابية، بدون الرغبة في استغلال النتائج الأثرية (ولكن هذا ليس بالأمر السهل دائماً) وقبل كل شيء، بدون الرغبة في تحويل الشخصيات الأسطورية إلى شخصيات تاريخية. الروايات عن أصل العالم والبشر، وعن الآباء والأمهات، وعن موسى والخروج من مصر هي أساطير. ومع ذلك، غالباً ما يحمل مصطلح "أسطورة" دلالة سلبية لأنه يقابل الرواية التاريخية. لكن كلمة "أسطورة" مشتقة من جذر يعني "كلام" أو "رواية". وللأسطورة دور نبيل في تفسير مكانة الإنسان في العالم، وفي تشكيل الهوية من خلال تكرار سردها. فالأسطورة تفسّر الطقوس، مثل الختان أو المعمودية؛ وتفسّر الروابط الأسرية بين الشعوب والقبائل، مثل قصص الآباء والأمهات؛ كما يفسر خصوصية مجموعة ما وإلهها، مثل قصة الخروج من مصر. لذا، فإن وصف بعض النصوص التوراتية بالأساطير لا ينطوي على أي إهانة، بل على العكس؛ فإن هذا المصطلح يقول شيئاً عن الوظيفة الأساسية لبعض النصوص التوراتية: بناء الهوية.
وكتبت فرانسواز سميث: "يجب أن نترك للأساطير، سواء أكانت توراتية أم لا، وظيفتها وروعتها كأساطير... فأساطير الكتاب المقدس تخدم الكتاب المقدس كأسطورة، بقدر ما هي قادرة على إعادة القراء إلى الأسئلة المنسية أو التي لم تُطرح بعد". ومن صفات الأسطورة الأخرى أنها لا تخضع لمعايير "المنطق" (كيف وجد قايين زوجته الأولى؟)، وتستوعب التناقضات بسهولة. وفيما سرد خروج بني إسرائيل من مصر يصوّر البلاد على أنها أرض اضطهاد يجب الخروج منها بأيّ ثمن، فإن قصة يوسف، وغيرها من النصوص، تصور مصر على أنها أرض ملجأ، حيث يمكن للمرء أن يعيش ويزدهر (لا توجد حتى صراعات لاهوتية بين الفرعون ويوسف!). وفيما سفر التثنية ينص على استبعاد الموآبيين من الجماعة، فإن قصة روث تظهر كيف أصبحت موآبية جدة الملك داود. وفيما يروي سفر يشوع الاستيلاء على الأرض على أنه غزو شمل طرد سكانها أو ذبحهم، فإن قصص الآباء تروج للتعايش والتفاوض السلمي حول الأرض. وعلاوة على ذلك، فإن إبراهيم ليس فقط والد إسحاق، بل هو أيضاً والد إسماعيل، الذي هو نفسه سلف القبائل العربية التي اجتمعت على الأرجح مع إخوانهم اليهود عند شجرة الخليل المقدسة لإحياء ذكرى سلفهم المشترك.
المسألة ليست في الاختيار بين إحدى هاتين الروايتين. فالكتاب المقدس يضعنا أمام التوترات التي عاشها المؤلفون الذين نقلوا إلينا النصوص، والذين أرادوا إظهار أن هذه التوترات تشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية تسعى إلى تحقيق التوازن بين الاندماج والانعزال. واليوم، من منظور ما بعد الاستعمار، يمكن قراءة قصص الغزو أو بعض مزامير الانتقام على أنها قصص مضادة صيغت في ظروف قمعية وتستخدم خطاب المضطهد لتقليبه ضده. وهذا ينبغي أن يحذر من الاستخدام غير المشروع لهذه النصوص عندما يكون المرء في وضع المضطهد المحتمل، حيث إنه من المفيد دائماً معرفة الخطاب الذي يتم تقويضه أو الذي يُبنى عليه خطاب معارض.
ومن منطلق النزاهة الفكرية التي هي أيضاً الأساس الذي نبني عليه عالماً عادلاً، يجب أن نعترف بالحقيقة: النصوص التوراتية ليست وصفات جاهزة ولا رسائل تغنينا عن التفكير. علينا أن نقلق من أن هذا الاستخدام للكتاب المقدس، بدل أن يتراجع، يبدو أنه في توسع مستمر. إن مقالة فرانسواز سميث، التي قد يجدها البعض استفزازية، لها الفضل الكبير في طرح تساؤلات حول استخدام الكتاب المقدس في الخطاب السياسي والأخلاقي. فهي تدعونا إلى الوضوح الذي لا يحظى دائماً بسمعة طيبة اليوم، ولكنه ضروري أكثر من أي وقت مضى.
*مدير الكوليج دو فرانس وأستاذ كرسي "البيئات التوراتية"
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.
0 تعليق