د. بني هاني يكتب عن مُدن المطبات والمجتمع الخشن! #عاجل - مصدرنا الإخبارى

منوعات 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
د. بني هاني يكتب عن مُدن المطبات والمجتمع الخشن! #عاجل - مصدرنا الإخبارى, اليوم السبت 23 أغسطس 2025 06:33 مساءً

مصدرنا الإخبارى - جو 24 :

كتب أ. د عبدالرزاق بني هاني - 

انطلقتُ من مدينة أبياريا (Apiaria)، وهي، كما ذكرت في أحد مقالاتي، مدينة العسل، إلى مدينة أخرى في الإقليم ذاته، وكان اسمها اللاتيني أسباريا (Asperia)، وتعني باللغة العربية المدينة الخشنة. وبكل جدارة ينطبق اسم المجتمع الخشن على طبيعة أهل المدينة، وبيئتها المادية والاجتماعية. وقد رأيت بأن الخشونة تُجسد الطبيعة المزدوجة للخلل الوظيفي للمدينة. فعلى المستوى المادي، يوحي المصطلح بنسيج فظٍ وقاسٍ، وجارح، وهو ما ترمز إليه تماماً المطبات التي تملأ كل شارع من شوارع المدينة، محوّلة كل رحلة إلى محنة من عدم الراحة. أما على المستوى الاجتماعي والنفسي، فهو يصف نمطاً من التفاعل يتسم بالقسوة، والاستفزاز، وانعدام الاكتراث بمشاعر الآخرين. في المجتمع الخشن، كل بنية - بدءاً من أسفلت الطريق وصولاً إلى أواصر العلاقات الإنسانية- مصممة لكي تطحن الفرد، وتستنزفه، وتنهكه. إنه مجتمع الاحتكاك الدائم والصراع منخفض الحدة.

ترنيمة المطبات: الاستعارة المهيمنة: الرمز الأقوى والأكثر واقعية للمجتمع الخشن هو شوارع مدنه. فالمطبات التي لا تنتهي، ووُضعت دون أدنى تفكير، ليست مجرد علامة على سوء الهندسة المدنية؛ بل هي تجسيد مادي لفلسفة المجتمع الجوهرية. إنها عامل إزعاج مستمر لا يمكن التفاوض بشأنه. فهي تبطئ التقدم، وتتلف المركبات، وتهز الأبدان، مما يخلق خطَ أساسٍ من الانزعاج والإحباط لكل مواطن، كل يوم.

هذا الاحتكاك المادي يُمهد الطريق للاحتكاك الاجتماعي. فالشخص الذي يبدأ رحلته بخوض سباق من المطبات والعقبات يصل إلى وجهته، وقد استُنزف صبره وتوترت أعصابه. فالطريق نفسه قد درّبه على توقّع الإزعاج وتحمّله. وهذا الواقع المادي يطبّع حالة من الوجود لا يكون فيها أي شيء سلساً أو سهلاً أو فعالاً. إنه يرسل رسالة واضحة من المدينة إلى مواطنيها، تقول: راحتك ليست أولوية. رحلتك ستكون صعبة. توقّع أن يتم إحباطك. هذه البيئة تجعل من الصدام المفاجئ الذي يحدث دون مقدمات ليس انحرافاً، بل امتداداً طبيعياً للعالم المادي. فالتوقف المزعج عند مطب سيئ التحديد يقابله الإهانة المباغتة من شخص غريب. كلاهما مفاجئ، وغير سار، ولا يخدم أي غرض بنّاء.

تآكل الكياسة: لقاءات بلا سياق: في المجتمع السليم، يوجد عقد اجتماعي يوفر قواعد سلوك غير مكتوبة تضمن حداً أدنى من الكياسة والقدرة على التنبؤ. أما في المجتمع الخشن، فقد تم تمزيق هذا العقد. فظواهر الشتائم العشوائية، والإهانات التي لا سبب لها من الجيران في أحياء المدينة، والصدامات التافهة، ما هي إلا أعراض لتذرية اجتماعية عميقة. وقد اكتشفت السبب في أسباريا كما يأتي:

أولاً) غياب الأعراف المشتركة: عندما يصطدم الناس دون مقدمات، فهذا يعني عدم وجود فهم مشترك للمساحة العامة أو الحدود الشخصية. لأن كل فرد يعمل داخل فقاعته الدفاعية الخاصة، ناظراً إلى الآخرين ليس كإخوان في المواطنة، بل كعقبات أو تهديدات محتملة. 

ثانياً) تفريغ الإحباط: الاحتكاك المستمر الناجم عن عدم الكفاءة البيروقراطية، والمشقة الاقتصادية، والانزعاج الجسدي، يخلق خزاناً هائلاً من الغضب الجماعي. ومع غياب القنوات الفعالة لمعالجة الأسباب الجذرية لهذا الغضب، يتم تفريغه على أقرب هدف متاح. فالشخص الذي يقطع عليك الطريق في حركة المرور يصبح بديلاً عن المسؤول الفاسد؛ والشخص الذي يتحرك ببطء في طابور الانتظار يصبح رمزاً لنظام راكد. فيصبحُ الشتم وكأنه صمام تنفيس لشخص يشعر بالعجز في مواجهة القوى الأكبر التي تطحنه. 

ثالثاً) انهيار المجتمع المحلي: إهانة الجار مؤذية بشكل خاص لأنها تمثل فشل الوحدة الأساسية للمجتمع. إنها تشير إلى أنه حتى القرب الجغرافي والألفة لا يوفران حماية من العداء الاعتباطي. فيصبح بناء الثقة مستحيلاً، مما يؤدي إلى حالة من جنون الارتياب (البارانويا) والعزلة الاجتماعية. فالناس ليسوا وحيدين فحسب، بل هم في حالة حذر دائم حتى من أولئك الذين يجب أن يكونوا حلفاءهم.

هذا التآكل الاجتماعي يضمن أن يظل المواطنون منشغلين باستمرار بالصراعات الصغيرة، مما لا يترك لهم طاقة أو إرادة جماعية لمواجهة المشاكل البنيوية الأكبر في مجتمعهم.

هيمنة الأهواء والمزاجية: السلطة كنزوة شخصية: يُعرَّف المجتمع الخشن بالممارسة الاعتباطية والشخصية للسلطة. فالمدينة ومؤسساتها لا تعمل كأنظمة محايدة تحكمها القواعد، بل كمجموعة من الإقطاعيات الشخصية حيث تكون أهواء الفرد المسؤول هي العليا. فالموظف العام الذي يؤخر معاملة لأنه لم يعجبه مظهرك هو التجسيد المثالي لهذا المبدأ. وفعله لا يستند إلى قانون أو إجراء أو خدمة عامة، بل هو فعل حقد شخصي. وهو ما يحوّل علاقة المواطن بالمدينة من علاقة حقوق وواجبات إلى علاقة استجداء وتذلل. فيجب على المواطن أن يتعلم إرضاء الموظف أو تملّقه أو رشوته، ليس بسبب القانون، بل بسبب مزاج الموظف. وهذا يجعل القانون نفسه بلا أهمية.

وبالمثل، فإن شرطي المرور الذي يحرر مخالفة لمجرد إظهار سلطته لا يطبق القانون؛ بل يؤدي استعراضاً لسلطته. فالمخالفة ليست عقاباً على تجاوز، بل هي استعراض لهيمنته. وهذا له تأثير مدمر للغاية على سيادة القانون. إنه يعلّم المواطنين أن القواعد ليست للسلامة أو النظام، بل هي أسلحة يستخدمها الأقوياء ضد الضعفاء. فيختفي احترام السلطة ويحل محله الخوف والاستياء. ولا يطيع الناس القانون لأنه صحيح؛ بل يطيعونه فقط عندما يكون المنفّذ يراقب. وهذا يحوّل المجتمع إلى لعبة قط وفأر مستمرة بين المواطنين والمدينة، مما يزيد من تعميق الديناميكية العدائية.

الحكم الاستعراضي ووهم الصعوبة: القيادة السياسية في مدينة أسباريا ومجتمعها الخشن هي أستاذة في فن الأداء. فـالتغيير المتكرر لمدير المدينة والمدراء من حوله ليس علامة على ديمقراطية نابضة بالحياة، بل على عدم استقرار منهجي يخدم النخبة. وهذا التغيير المستمر يضمن عدم مساءلة أي شخص عن الإخفاقات طويلة الأمد. فكل مجلس جديد للمدينة يمكنه إلقاء اللوم على سابقه من المجالس، وتقديم وعود ببداية جديدة، ثم مواصلة نمط الإهمال نفسه. والجانب الأكثر سخرية في هذا الأداء هو التظاهر بأن الإصلاحات السهلة صعبة للغاية. وفي الواقع، غالباً ما يكون لطبقة المدراء مصلحة راسخة في الحفاظ على الوضع الراهن المختل. وأستطيع وصف الحال في أسباريا كما يأتي: 1) التعقيد كذريعة: من خلال جعل المشاكل البسيطة تبدو معقدة بشكل لا يمكن التغلب عليه، تعفي حكومة المدينة نفسها من مسؤولية حلها. فهي تخلق سرداً من العجز المُثبط للمطالبة الشعبية بالتغيير. 2) الاحتكاك كأداة للسيطرة: إن النظام المليء بالعقبات البيروقراطية والقواعد التعسفية يخلق فرصاً للفساد والمحسوبية. فالمسؤول الذي يمكنه حل المشكلة التي خلقها بنفسه يصبح قوياً. وإبقاء النظام معطلاً مربح لأولئك الذين يسيطرون على نقاط الاختناق. 3) إهدار الموارد كإلهاء: إن تخصيص الموارد لأنشطة التافهة هو استراتيجية متعمدة. فمهرجان كبير، أو نصب تذكاري جديد، أو مشروع تجميلي سطحي يخلق وهم التقدم والفخر الوطني لأهل المدينة. فهو يوفر مشهداً يُلهي عن البنية التحتية المنهارة، والمدارس الفاشلة، ونظام الرعاية الصحية المحطم. وهذه التفاهات سهلة، ومرئية، وتولد عناوين إيجابية في الأخبار، بينما يظل العمل الجوهري للإصلاح صعباً للغاية إلى الأبد.

وهذا كله يخلق حالة من الشلل المصطنع. فالقوى الفاعلة في المدينة (مدرائها) لا تفشل في الحكم؛ بل تنجح في هدفها الحقيقي، وهو الحفاظ على سلطتها وامتيازاتها من خلال إبقاء المواطنين غارقين في نظام من الاحتكاك الدائم والمنهك.

ندرة الحكمة وسيادة الرداءة: السمة الأخيرة، وربما الأكثر مأساوية، للمجتمع الخشن هي مناخه الثقافي والفكري. عندما يتم تعريف مجتمع ما بالسلطة التعسفية، والتفكير قصير المدى، والصراع المستمر، فإن الحكمة ليست نادرة فحسب؛ بل يتم التقليل من قيمتها بشكل فعال. وذلك للأسباب الآتية: 1) الحكمة تتطلب استقراراً: الحكمة، التي تنطوي على فهم عميق ومنظور طويل الأمد وحكم دقيق، لا يمكن أن تزدهر في بيئة من الفوضى. فعندما تتغير القواعد يومياً وتعتمد النجاة على التعامل مع أهواء الأقوياء، فإن الدهاء التكتيكي يصبح ذا قيمة أكبر بكثير من الحكمة الاستراتيجية. 2) الرداءة خيار آمن: في المجتمع الخشن، يُعتبر التميز تهديداً. فالشخص الكفء والمبدئي حقاً يكشف عن عدم كفاءة وفساد النظام. فهو يطرح أسئلة غير مريحة ويطالب بعمليات عقلانية. أما الشخص الرديء، فهو مطيع. لا يتحدى السلطة، ويتبع الأوامر غير المنطقية، ويدين بمنصبه ليس للجدارة، بل للولاء. ولذلك، يقوم المدراء في المدينة باختيار الرداءة وترقيتها بشكل فعال، لأنها الخيار الأكثر أماناً واستقراراً لمن هم في السلطة. 3) الحلقة المفرغة: وهذا الوضع يخلق حلقة مفرغة تديم نفسها. فالثقافة التي تحتفي بالرداءة تنتج قادة من مستويات رديئة. وهؤلاء القادة يعززون الأنظمة المختلة لأنهم يفتقرون إلى الحكمة أو الشجاعة لإصلاحها. ثم يقومون بتوظيف أفراد رديئين آخرين في إداراتهم، مما يزيد من ترسيخ هذه الثقافة. وتصبح الحكمة أثراً غريباً وعديم الفائدة من حقبة ماضية.

مجتمع من الإرهاق والعقيدية الكلبية (Cynicism) (السخرية العدمية): يفرض العيش في المجتمع الخشن ثمناً نفسياً باهظاً. فالوابل المستمر من الإحباطات الصغيرة والكبيرة، من مطبات الطريق إلى إهانات المسؤولين، يخلق حالة من التوتر المزمن واليقظة المفرطة. واستنزاف الفرد ليس بحدث كارثي واحد، بل بسلسلة لا تنتهي من الخدوش الصغيرة. وقد رايتها كإنها موت بألف جرح. وهذا يؤدي إلى مجموعة متوقعة من الأمراض الاجتماعية: 1) العجز المكتسب: بعد مواجهة العقبات التعسفية بشكل متكرر وعدم إيجاد أي سبيل للانتصاف، يستسلم الكثير من المواطنين ببساطة. فهم يعتقدون أن النظام غير قابل للتغيير وأن أفعالهم لا تهم، مما يؤدي إلى اللامبالاة السياسية وعدم المشاركة المدنية. 2) الكلبية (السخرية) المتفشية (Cynicism): تتآكل الثقة في المؤسسات، وفي المواطنين الآخرين، وفي المستقبل. ويصبح الافتراض التلقائي هو أن الجميع يتصرفون بسوء نية. هذه الكلبية (Cynicism) تسمم كل تفاعل وتجعل العمل الجماعي من أجل الصالح العام شبه مستحيل. 3) هجرة الأدمغة: الأفراد الأكثر موهبة وحكمة وطموحاً، الذين لا يستطيعون تحمل نظام يعاقب التميز، سيغادرون إذا أتيحت لهم الفرصة. هذا النزيف في رأس المال البشري يزيد من ترسيخ الرداءة، حيث يتم تجريد المجتمع باستمرار من الأشخاص الذين كان بإمكانهم إصلاحه.

المجتمع الخشن هو نظام في حالة من الخلل الوظيفي المستقر. تكمن عبقريته في كيفية تعزيز عناصر الاحتكاك المختلفة بعضها ببعض. فالطرق المحبطة تخلق سائقين غاضبين. والسائقون الغاضبون يصطدمون ببعضهم البعض، مما يؤدي إلى تآكل الثقة الاجتماعية. وانعدام الثقة الاجتماعية يسمح لأصحاب التعسفية والمسيئة بالازدهار. وهذه السلطة المسيئة تنخرط في حكم استعراضي، فتهدر الموارد وتتجنب الإصلاح الحقيقي، مما يؤدي إلى استمرار تدهور البنية التحتية، بما في ذلك الطرق.

ونظام المدينة متماسك بنفس القوى التي تمزقه. فالطاقة التي يمكن أن تغذي حركة إصلاحية، تتبدد بدلاً من ذلك يومياً في ملايين المشاحنات التافهة، والكوابيس البيروقراطية، والفعل البسيط والمنهك المتمثل في الانتقال من مكان إلى آخر. إنه مجتمع يطحن ويستمر، ويطحن مواطنيه مخطئاً، بين ضجيج الاحتكاك المستمر وهدير آلة فاعلة ومنتجة.

قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : د. بني هاني يكتب عن مُدن المطبات والمجتمع الخشن! #عاجل - مصدرنا الإخبارى, اليوم السبت 23 أغسطس 2025 06:33 مساءً

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق