نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الدين العام في العالم: قراءة لمعضلة الاستدامة المالية - مصدرنا الإخبارى, اليوم الأحد 24 أغسطس 2025 12:18 مساءً
يشهد العالم اليوم مستويات غير مسبوقة من تراكم الدين العام، إذ بلغ حجمه نحو 324 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2025، وهو ما يعادل 93 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مع توقعات بأن يتجاوز هذه النسبة ليصل إلى أكثر من مئة في المئة بحلول عام 2030. لم يعد هذا الرقم مجرد إشارة مالية مرتبطة بعجز الموازنات أو قصور الإيرادات، بل أصبح انعكاساً حضارياً يعبر عن شكل العقد الاجتماعي الجديد بين الحكومات والمجتمعات وعن مستقبل التوازن بين الحاضر والأجيال القادمة. وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في مقاربة الدين العام، بحيث لا يقتصر التحليل على الأبعاد المالية والاقتصادية التقليدية، وإنما يمتد ليشمل التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي والتحولات المناخية والجيوسياسية.
إن النظر إلى الدين العام من زاوية كلاسيكية تربط ارتفاعه بالعجز المالي والحوكمة الضعيفة والصدمات الاقتصادية لم يعد كافياً لفهم الظاهرة. فالتكنولوجيا المالية، وعلى رأسها العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، تهدد بإعادة صياغة قواعد الاقتراض الداخلي والخارجي، بما قد يجعل خدمة الدين أكثر مرونة في بعض السياقات، أو أكثر هشاشة في حالات أخرى. كما أن العوامل المناخية أضحت لاعباً جديداً في معادلة المديونية، إذ إن تمويل الانتقال الأخضر يحتاج إلى مئات المليارات سنوياً، وإذا ما تم بالاقتراض التقليدي فسوف يفاقم العبء، بينما يمكن أن يتحول إلى أداة تنموية مستدامة إذا جرى توجيهه عبر سندات خضراء أو أدوات مالية مبتكرة تربط بين العائد البيئي والاستدامة المالية. وفي ظل هذه التحولات، لم يعد الدين مجرد قضية اقتصادية داخلية، بل أصبح أيضاً أداة جيوسياسية تستخدمها القوى الكبرى لإعادة تشكيل نفوذها، كما يظهر في اعتماد الصين على مبادرة الحزام والطريق من جهة، والولايات المتحدة على قوة سندات الخزانة من جهة أخرى.
الأسباب التي أدت إلى تراكم الدين العام لا يمكن فصلها عن الديناميكيات السياسية والاجتماعية. فالاقتصاد السياسي للانتخابات يفسر كيف أصبح الدين وسيلة لكسب الأصوات عبر الإنفاق قصير الأجل على حساب الاستقرار طويل الأمد، وهو ما ينسجم مع ما تذهب إليه نظرية "الاختيار العام”. كما أن الهندسة المالية العالمية خلقت منتجات ديون معقدة، مثل المشتقات السيادية، وضعت الحكومات تحت رحمة الأسواق الدولية والمستثمرين الكبار. ويضاف إلى ذلك دخول الذكاء الاصطناعي كعامل مزدوج التأثير، إذ يتيح تحسين إدارة الدين والتنبؤ بمخاطره، لكنه قد يكشف أيضاً هشاشة مالية غير مسبوقة إذا أسيء استخدام النماذج التنبؤية أو تم الاعتماد عليها بشكل مبالغ فيه.
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الظاهرة تجاوزت حدود الأرقام الكلية. فارتفاع خدمة الدين يعني تقليصاً حتمياً للإنفاق الاجتماعي على التعليم والصحة والبنية التحتية، وهو ما ظهر في دول مثل مصر وغانا حيث استحوذت الفوائد وحدها على ما يقارب نصف الإيرادات الحكومية. كما أن التضييق على الاستثمار الخاص نتيجة المنافسة على التمويل المحلي رفع أسعار الفائدة في اقتصادات مثل الهند والبرازيل، الأمر الذي أدى إلى إضعاف قدرة القطاع الخاص على النمو. وفي بعض الحالات، كان اللجوء إلى التمويل النقدي للتعامل مع أعباء الدين سبباً في تضخم مفرط وانهيار العملة، كما شهدت فنزويلا وزيمبابوي. لكن التداعيات الأعمق لا تتوقف عند هذا الحد، فهي تمتد إلى العدالة بين الأجيال، إذ لم تعد الأعباء المستقبلية محصورة في صورة ضرائب أو ديون تقليدية، بل مرشحة لأن تنتقل إلى أشكال جديدة مثل الرسوم الرقمية والاقتطاعات الذكية من المحافظ الإلكترونية في زمن الاقتصاد الرقمي. كذلك فإن ارتباط الدين بالعملات الرقمية للبنوك المركزية يجعل أي هجوم سيبراني محتملاً أن يتحول من أزمة مالية محدودة إلى أزمة سيادية كاملة، وهو ما يعكس هشاشة جديدة لم تشهدها المنظومات المالية من قبل.
وإذا كانت التجارب التقليدية تطرح خفض النفقات وزيادة الإيرادات كخيار وحيد، فإن المستقبل يفرض مقاربات أكثر ابتكاراً. فقد يكون التمويل الأخضر المربوط بالنتائج بديلاً واقعياً، بحيث تتحول خدمة الدين إلى وظيفة مرتبطة بتحقيق مؤشرات مناخية وتنموية. كما يمكن للصناديق السيادية الذكية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي في إدارة الفوائض المحدودة أن تزيد العوائد وتقلل الحاجة إلى الاقتراض. ويمكن أن تظهر مقايضات جديدة للدين، ليس فقط مقابل حماية البيئة كما هو مطروح في آليات "Debt-for-Nature”، بل مقابل بناء بنية تحتية رقمية في الدول النامية، وهو ما يمكن وصفه بـ "Debt-for-Digital”. أما على صعيد الحوكمة، فإن توظيف تقنيات البلوكشين في إدارة الدين العام قد يشكل نقطة تحول، إذ يضمن الشفافية ويقلل من الفساد ويزيد من ثقة المؤسسات الدولية بالقدرة السيادية للدول.
في النهاية، لم يعد الدين العام مجرد معادلة بين العجز والفائدة والنمو، بل أصبح منظومة متعددة الأبعاد تمتد إلى التكنولوجيا والمناخ والسياسة الدولية. والسؤال لم يعد كيف يمكن تخفيض الدين فحسب، وإنما كيف يمكن تحويله إلى أداة للابتكار والتحول الاقتصادي، بحيث يصبح رافعة ذكية للتنمية المستدامة بدلاً من قيد يرهق الحاضر ويقيد المستقبل.
قدمنا لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى هذا المقال : الدين العام في العالم: قراءة لمعضلة الاستدامة المالية - مصدرنا الإخبارى, اليوم الأحد 24 أغسطس 2025 12:18 مساءً
0 تعليق